قصة الفضيل وهدايته إلى الطريق الأقوم، بعد أن كان قاطع طريق، فتحوّل بهذا إلى أن كان من أعبد الناس وأزهدهم، ومن أكثرهم ورعاً وحباً في التخلص من زخارف الدنيا.. هذه القصة وهذا التحول من العجائب والغرائب، ومن هداية الله له، وفضله عليه.
فقد كان الفضيل بن عياض التميمي في أول أمره رجلاً يُخيف الناس، ويقطع الطريق، وينهب أموال عابري السبيل، ما بين «أبيورد وسرخس»، وكان هذا الطريق تحت تصرفه؛ فكلٌّ يخاف سطوته وجبروته.
يقول ابن عساكر في سبب توبته: كان الفضيل شاطراً، يقطع الطريق في مفازة، بين «أبيورد ومرو»؛ فربما كان ينتمي إلى أبيورد، وقيل كان يقطع على أبيورد وسرخس، وكان سبب توبته أنه عشق جارية، فبينما هو يرتقي الجدران إليها سمع قارئاً يتلو {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} (الحديد16)، فقال: يا رب قد آن؛ فرجع فآواه الليل إلى خربة، فإذا فيها رفقة سابلة، فقال بعضهم لبعض: نرحل الليلة، وقال قوم: بل نبقى هنا حتى نصبح؛ فإنَّ فضيلاً على الطريق يقطع علينا، ولما كان الله سبحانه قد أراد هدايته {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ} فقد تاب الفضيل وأمّنهم، وجاور الحرم حتى مات. وقيل إنه قال: ففكرتُ وقلتُ: أنا أسعى بالليل في المعاصي، وقوم من المسلمين ها هنا يخافونني، وما أرى الذي ساقني إليهم إلا لأرتدع، اللهم إنني قد تُبْتُ إليك وجعلت توبتي مجاورة بيتك.
وقيل إنه خرج يوماً ليفسح الطريق، فإذا هو بقافلة قد انتهت إليه ليلاً، فقال بعضهم لبعض: اعدلوا بنا إلى هذه القرية؛ فإن أمامنا رجلاً يُقال له الفضيل.
فسمع الفضيل فأُرعد. وقال: يا قوم أنا الفضيل جوزوا، والله لأجتهدن ألا أعصي الله أبداً. فرجع وترك ما كان عليه.
ثم قال ابن عساكر: وقيل إنه خرج يريد مقطعة من الطريق فإذا بقوم حمّارة معهم مِلْح، فسمع بعضهم يقول: مروا لا يفاجئنا فضيل فيأخذ ما معنا، فسمع ذلك فضيل، فاغتمّ وتفكر وقال: يخافني هؤلاء الخلق الخوف العظيم، فتقدم إليهم وسلم عليهم وقال لهم -وهم لا يعرفونه-: تكونون الليلة عندي، وأنتم آمنون من الفضيل، فاستبشروا وفرحوا وذهبوا معه، فأنزلهم يرتاد لهم علفاً، فرجع إليهم فسمع قارئاً يقرأ: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} (الحديد16) فصاح الفضيل ومزق ثيابه على نفسه، وقال: بلى والله قد آن، فكان هذا مبتدأ توبته.
وقال عنه إبراهيم بن الأشعث: ما رأيت أحداً كان خوف الله في صدره أعظم من الفضيل، كان إذا ذكر الله أو ذُكر عنده أو سمع القرآن ظهر به من الخوف والحزن وفاضت عيناه وبكى حتى يرحمه من يحضره، وكان دائم الحزن شديد الفكرة، ما رأيت يريد الله بعلمه وعمله، وأخذه وعطائه، ومنعه وبذله، وبغضه وحبه، وخصاله كلها غيره، كنا إذا خرجنا معه في جنازة لا يزال يعظ ويذكّر ويبكي، كأنه مودع أصحابه، ذاهب إلى الآخرة، حتى يبلغ المقابر، فيجلس مكانه بين الموتى من الحزن والبكاء، حتى يقوم وكأنه رجع من الآخرة يخبر عنها.
وسمعه السّريّ بن المغلّس يقول: من خاف الله لم يضره أحد، ومن خاف غير الله لم ينفعه أحد. وسمعه فيض بن إسحاق، وقد سأله عبدالله بن مالك قائلاً: أخبرني من أطاع الله هل تضرّه معصية أحد؟ قال: لا. قال: من يعصي الله هل تنفعه طاعة أحد؟ قال: لا. قال: هو الخلاص إن أردت الخلاص. ويقول عبدالصمد بن يزيد بن مُردويه: سمعت الفضيل يقول: لم يتزين الناس من شيء أفضل من الصدق، وطلب الحال. فقال ابنه علي: يا أبتي إن الحلال عزيز. قال: يا بُني إن قليله عند الله كثير.
طلب الفضيل العلم على كِبَر، فأبلغه الله منه ما يريد، وفقهه الله في الدين، فكان صحيح الحديث، صدوق اللسان، شديد الهيبة للحديث إذا حدّث، وكان يثقل عليه الحديث جداً، وربما قال لمحدثه: لو أنك طلبت مني الدنانير كان أيسر علي من أن تطلب مني الحديث، فقلت: لو حدثتني بأحاديث فوائد ليست عندي كان أحب إليّ من أن تهب لي عددها دنانير، قال: إنك مفتون، أما والله لو علمت لم تسمع، فقد سمعت سليمان بن مهران يقول: إذا كان بين يديك طعام تأكله فتأخذ اللقمة فترمي بها خلف ظهرك متى تشبع؟
أما حكايته مع هارون الرشيد، واطمئنان هارون لموعظته، فقد جاءت في مصادر عدة، وهذه رواية الذهبي بسنده إلى الفضيل بن الربيع، قال: حج أمير المؤمنين - يعني هارون الرشيد- فقال لي: ويحك قد حك في نفسي شيء؛ فانظر لي رجلاً أسأله، فقلت: ها هنا سفيان بن عيينة. فقال: امضِ بنا إليه، فأتيناه فقرعت بابه، فقال: من ذا؟ فقلت: أجب أمير المؤمنين، فخرج مسرعاً. فقال: يا أمير المؤمنين لو أرسلت إليّ أتيتك. فقال: خذ لما جئتك له، فحدثه ساعة، ثم قال له: عليك دين؟ قال: نعم فقال لي: اقضِ دينه.
فلما خرجنا قال: ما أغنى صاحبك شيئاً، قلت: ها هنا عبدالرزاق، قال: امضِ بنا إليه.
فأتيناه فقرعت الباب فخرج، وحادثه ساعة، ثم قال: عليك دين؟ قال: نعم. قال: أبا عباس اقضِ دينه. فلما خرجنا قال: ما أغنى صاحبك شيئاً، انظر لي رجلاً أسأله؟ قلت: ها هنا الفضيل بن عياض، قال: امضِ بنا إليه، فأتيناه فإذا قائم يصلي، يتلو آية يرددها. فقال: اقرع الباب، فقرعت: فقال: مَنْ هذا؟ قلت أجب أمير المؤمنين. قال: مالي ولأمير المؤمنين؟ قلت: سبحان الله، أما عليك طاعة؟ فنزل وفتح الباب، ثم ارتقى إلى الغرفة فأطفأ السراج، ثم التجأ إلى زاوية، فدخلنا فجعلنا نجول عليه بأيدينا، فسبقت كفُّ هارون قبلي إليه، فقال: يا لها من كفّ، ما ألينها إن نجت إذاً من عذاب الله، فقلت في نفسي ليكلمنه قليلاً بكلام تقي، من قلب تقي. فقال له هارون: خذ لما جئناك له رحمك الله، فقال: إن عمر بن عبدالعزيز لما ولي الخلافة دعا سالم بن عبدالله ومحمد بن كعب ورجاء بن حيوة، فقال لهم، إني قد ابتليت بهذا البلاء، فأشيروا عليّ؟ فعد الخلافة بلاء، وعددتها أنت وأصحابك نعمة. فقال له سالم: إن أردت النجاة من عذاب الله فليكن كبير المسلمين عندك أباً، وأوسطهم أخاً، وأصغرهم ولداً، فوقر أباك، وأكرم أخاك، وتحنن على ولدك.
وقال له رجاء بن حيوة: إن أردت النجاة من عذاب الله فأحب المسلمين ما تحب لنفسك، واكره لهم ما تكره لنفسك، ثم مُت إذا شئت، وإني أقول لك هذا، وإني أخاف عليك أشد الخوف، يوماً تزل فيه الأقدام، فهل معك -رحمك الله- من يشير عليك بمثل هذا؟ فبكى الرشيد بكاءً شديداً حتى غُشي عليه، فقلت له: ارفق بأمير المؤمنين، فقال: يا ابن أم الربيع تقتله أنت وأصحابك، وأرفق به أنا؟ ثم أفاق فقال: زدني -رحمك الله- قلت: بلغني أن عاملاً لعمر بن عبدالعزيز اشتكى إليه، فكتب إليه: يا أخي أذكرك طول سهر أهل النار في النار، مع خلود الأبد، وإياك أن يُنصرَفَ بك من عند الله فيكون آخر العهد وانقطاع الرجاء. فلما قرأ الكتاب طوى البلاد، حتى قدم عليه، فقال، ما أقدمك؟ قال: خلعت قلبي بكتابك.
فبكى هارون بكاء شديداً، وقال: زدني.
قال: يا حسن الوجه، أنت الذي يسألك الله عن هذا الخلق يوم القيامة، فإن استطعت أن تقي هذا الوجه من النار فافعل، وإياك أن تصبح وتمسي وفي قلبك غش لأحد من رعيتك، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أصبح لهم غاشاً لم يرح رائحة الجنة». فبكى هارون، وقال له: عليك دَيْن؟ قال: نعم دين لربي، لم يحاسبني عليه، فالويل لي إن ساءلني، والويل لي إن ناقشني، والويل لي إن لم أُلهم حجتي.
قال: إنما أعني من دين العباد؟
قال: وعن ربي لم يأمرني بهذا، أمرني أن أصدّق وعده، وأطيع أمره، فقال عز وجل {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} فقال هارون: هذا ألف دينار، خذها فأنفقها على عيالك، وتقوَّ بها على عبادة ربك، فقال سبحان الله أنا أدلك على طريق النجاة وأنت تكافئني بمثل هذا، سلمك الله ووفقك، ثم صمت ولم يكلمنا. فخرجنا فقال هارون: أبا عباس، إذا دللتني فدلني على مثل هذا؛ هذا سيد المسلمين. فدخلت عليه امرأته فقال: قد ترى ما نحن فيه من الضيق، فلو قبلت هذا المال، قال: إنما مثلي ومثلك كمثل قوم لهم بعير يأكلون من كسبه، فلما كبر نحروه فأكلوا لحمه. فلما سمع هارون هذا الكلام، قال: ندخل فعسى أن يقبل المال، فلما علم الفضيل خرج فجلس على السطح في باب الغرفة، فجاء هارون وجلس إلى جنبه، فجعل يكلمه فلا يجيبه، فبينما نحن كذلك إذ خرجت جارية سوداء، فقالت: يا هذا قد آذيت الشيخ منذ الليلة فانصرف، فانصرفنا. فرحم الله الفضيل بن عياض.
وُلِد الفضيل عام 105هـ ومات في مكة عام 187، وكان شيخاً للحرم المكي في حياته.