مثل نسمة هادئة...
مثل طيف عابر...
مثل نجم لمع في السَّماء، ثمَّ انطفئ فجأة..
مثل سحابة جادت بمائها، ثمَّ غادرت قبل أن تروي الأرض والزرع!!
غادرنا الصديق الحبيب الوفي محمد الحميدي إلى الدار الآخرة، هكذا غادرنا دون أن يودعنا، ودون أن يقول لنا ما الذي كان يريد أن ينطق به كُلَّما زرناه ورفضنا أن نضع أعيينا بعينيه خشية أن يَرَى فينا الأسى والحزن على حاله، ونحن الذين كنّا نريد أن نطمئنه ونشد من أزره ونرفع من معنوياته لاسيما في أيامه الأخيرة!!
تعرفت على محمد الحميدي عن قرب وما زلت طالبًا في المرحلة الثانوية، فيما بعد أصبح زوجًا لأختي، وفي كلِّ مناسبة وأمام كل داع كنت أرى فيه الرجل الوفي والصديق الصدوق والمعطاء الذي لا يمكن أن يعتذر عن أيّ طلب أو يتأخر عن كل عون!! كنت أرى فيه القرب من أهله وبنيه وأصدقائه وزملائه، كان حريصًا على ألا يغضب أحدًا وألا يخسر أحدًا من أجل أمور لا تستحق ذلك، حتَّى في المرات التي كان يغضب فيها تلاقيه في اليوم التالي وقد نسي كل أمر وفتح صفحة جديدة تشع تسامحًا وحبًّا وكرمًا!!
في مرض الفقيد الأخير كان -رحمه الله- صابرًا محتسبًا شاكرًا مطمئنًا، حتَّى عندما عرف خطورة الحالة وصعوبة السيطرة على المرض لم يزده ذلك إلا إيمانًا واحتسابًا وصبرًا.. نقل لي أحدهم: (زرت الفقيد وسلمت عليه ولم يجب، ثمَّ بدأ بقراءة آية الكرسي حتَّى أتمها، حاولت أن أناديه محمد.. محمد لكنه أغمض عينيه فقد كان السمع عنده ضعيفًا للغاية في أيامه الأخيرة).. وعندما جاءني النبأ الحزين هرعت من فوري إلى حيث كان يرقد، فوجدت ابنه عبد الله - الذي أصر على مرافقة والده في رحلة العلاج وألغى فصلاً دراسيًّا جزاه الله خير الجزاء - وجدته يغالب الحزن ويستجمع القوى مع شقيقي سليمان: سألته ما الذي حدث؟ قال: من البارحة والوضع صعب وكنت موقنًا أن الرحيل قد أزف، صليت الفجر وجئت لغرفته ناداني: عبدالله.. اجبته (سم) قال: يا ولدي أمك.. أمك.. أمك، ثمَّ نطق الشهادة واغمض عينيه... وبعده بقليل أخبرني الطّبيب أن أمر الله نفذ، والحمد لله على قضائه وقدره.
عندما مرض الفقيد عرفت جيّدًا قيمته في أوساط مجتمعه وزملائه، كان الجميع يسأل عنه، وكان الجميع يدعو له، وكان الجميع يريد أن يقدم له شيئًا في محنته وآلامه التي كنت أراها مرسومة على ملامحه في كلِّ لقاء خلال السنوات الأربع الأخيرة من عمره الذي توقف في الساعة الخامسة من صباح يوم الأحد 20-6-1435هـ، وفي مغسلة الموتى وعندما أردنا أن نلقي عليه النظرة الأخيرة ونطبع قبلة الوداع على جبينه كان يرسم ابتسامة عريضة على محياه وكأنه يشاهدنا وكأن الروح ما زالت في الجسد، وهناك تحدث عدد من المشائخ وطلبة العلم عنه وانه يُرجَى له في آخرته خير من دنياه وأنه رحل في عداد الشهداء بإذن الله.
في الصلاة على الفقيد -رحمه الله- كانت صورة أخرى من صور الوفاء التي عرف بها أهل الزلفي، وصورة أخرى من صور مكانة الرجل عندهم، فعندما قدمت جِنازته شهدها جمع غفير في الجامع لم يشهد مثله الكثيرون، وفي المقبرة تآزرت الصفوف من السور إلى السور وصلي عليه ثانية، وفي العزاء كان الناس يتقاطرون زرافات ووحدانا للوقوف مع ذوي الفقيد والدُّعاء له، وهذا والله ما أثلج صدورنا ورفع بعض الحزن عنها والحمد لله على قضائه وقدره.
رحم الله محمد بن عبد الله الحميدي فقد أفضى إلى ما قدم وذهب إلى رب غفور رحيم نسأله أن يلطف به وأن يجعل ما أصابه تكفيرًا، وأن يجعله في الفردوس الأعلى من الجنة. اللَّهمَّ ارحم عبدك ابن عبدك محمد الحميدي وتجاوز عنه، اللَّهمَّ أبدله دارًا خيرًا من داره وأهلاً خيرًا من أهله... و إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ البقرة 156.