العلاقات بين الدول هي في الغالب علاقات معقدة مبنية على إرث تاريخي وعوامل جيوبوليتيكية وكذلك عوامل راهنة من العلاقات السياسية والاقتصادية، ونضيف إليها أيضا وربما هذا غير محسوب في كثير من الأحيان علاقات نفسية بين شعوب تلك الدول.
وعندما تبنى السياسة الخارجية لأي دولة تكون هناك معايير عديدة تؤخذ في الحسبان عن تقدير أهمية تلك العلاقة ومتانتها وحجمها واستمراريتها. وعلاقة العالم العربي مع روسيا الاتحادية هي نموذج لعلاقات معقدة جدا غير مستوعبة في أطر السياسات العربية الخارجية حتى الآن.
وروسيا الاتحادية هي دولة عظمى ورثت معظم تركة الاتحاد السوفيتي بأهم ما اشتملها من جغرافيا واسعة تمتد من أقصى آسيا إلى وسط أوروبا، والترسانة النووية هي التي وضعت الاتحاد السوفيتي سابقا وروسيا حاليا إحدى الدول العظمى في خارطة القوى النووية. وكان بالإمكان أن تأخذ روسيا مسار السلام العالمي ودعم الشعوب المضطهدة والتركيز على الداخل الاقتصادي لو استمر نظام أو امتدت مدرسة الرئيس الروسي يلتسن كبداية حكم جديد في روسيا، إلا أن بوتن دخل على الخط السياسي الجديد في روسيا وبدأ من خلال رئاستين منفصلتين في بناء ملامح حقبة روسية جديدة.
الرئيس الروسي بوتن ورث «الفوقية السوفيتية» من أعضاء المكتب السياسي الذين تعاقبوا على حكم الاتحاد السوفيتي خلال سبعين عاما من الحكم الشيوعي الحديدي الذي شق العالم إلى معسكرين اشتراكي/شيوعي يتزعمه الاتحاد السوفيتي ورأسمالي/ديموقراطي تتزعمه الولايات المتحدة الأمريكية. الرئيس بوتن استطاع من خلال تجربتين حيتين نعيشهما اليوم - روسيا و أوكرانيا - أن يعيد أجواء الحرب الباردة بكل المقاييس التي اعتدنا عليها، واستطاع أن يفرض كلمته على الواقع الدولي ببقاء نظام الأسد ودعم استقلال أجزاء من أوكرانيا بحجة أقليات روسية تستوطن جزيرة القرم وبعض مناطق أوكرانيا.
ومن المتوقع أن تشهد الفترة القادمة - شهورا وسنين - مزيدا من التوتر السياسي والضبابية الاقتصادية في العالم وخاصة ما يتعلق بالعلاقات بين روسيا والمعسكر الغربي. وستشهد هكذا أوضاع تداعياتها القوية على العلاقات الدولية بين دول وبين معسكرات. وما نود أن نثيره هنا وفي سياق الأوضاع الحالية المتأزمة بين روسيا والغرب خاصة بالوضع في أوكرانيا هو طبيعة العلاقات التي تربط بين العالم العربي وبين روسيا الاتحادية. ونحن لا نكتب عن علاقة دولة معينة بروسيا، ولكن نقصد مجمل العلاقات الروسية العربية وخاصة في حقبة التسعينيات الميلادية من القرن العشرين وما بعدها عندما تمكن جورباتشوف أول رئيس جمع بين نظامين شيوعي سوفيتي وإرهاصات نظام ديموقراطي روسي ( هو الذي شهد بداية التحولات النوعية في هياكل الدولة السوفيتية).
العلاقات العربية الروسية في مجملها غير واضحة وينتابها الغموض، وتبتعد عن رؤية واضحة وأهداف محددة. وما يعكس تلك العلاقات ليس الإستراتيجيات بل الظروف الآنية، ولهذا تبتعد تلك العلاقات وتقترب حسبما هي ظروف الحدث والوقت وعوامل أخرى في السياسة الدولية. ولم تستثمر السياسات الخارجية العربية موقع روسيا في منظومة الدول العظمي في بناء علاقات مصالح استراتيجية تبني توازنات أو تؤسس لمصالح مشتركة تؤثر في مسارات العلاقات العربية الروسية. ولهذا تشعر روسيا أنها فقدت العالم العربي عدا سوريا، وفقدت العالم الإسلامي عدا إيران، وأصبحت روسيا تبني سياستها الخارجية في العالم العربي ومنطقة الشرق الأوسط على مصالحها مع هاتين الدولتين.
ومن الواضح أن سياسات الرئيس بوتن لا يتوافق عليها الداخل الروسي، مما قد يعرقل نواياه التوسعية بسبب ضغوطات داخلية أو خارجية قد تفرض أوضاعا يتم بموجبها فرض حلول قسرية تنحي ببوتن جانبا سواء في مؤامرة سياسية أو استقصاد شخصي لحياته في النظام الروسي، من أجل استعادة توازن علاقات روسيا مع العالم، وخاصة أن الضغوطات الاقتصادية الغربية ربما تؤثر على مصالح فردية أو مؤسسية داخل العمق الروسي يستفزها بما يجعلها عرضة للانتقام من أفراد أو مؤسسات أو أحزاب. ونحن لا نريد أن نخوض في هكذا توقعات..
ولكن وفي زخم هذه التعقيدات التي يسير فيها الرئيس بوتن في سياسته تجاه العالم، والعالم العربي ليس استثناء تغيب السياسية الخارجية العربية عن روسيا أو مع روسيا. ولم تتمكن الجامعة العربية من بلورة فكر نوعي يبني لسياسة خارجية عربية تجاه روسيا. وهناك فقط استقطابات سياسية من روسيا لبعض الرموز العربية، لكن يمكن القول إن الجامعة العربية لم تنجح منذ انهيار الاتحاد السوفيتي وبداية روسيا الجديدة من الدخول في العمق الروسي والتخاطب الشعبي والعلاقة الدبلوماسية الرخوة مع النخب أو شرائج المجتمع ورموز السياسة الروسية. العرب فقط يتفرجون على روسيا وكأنها لا تعنيهم، منذ أكثر من عشرين عاما، ولهذا فقد اكتووا بنيران هذه اللامبالاة مع قوة عظمى كروسيا.