أعجب لمن يعرف أن المعلومة الصحيحة تأتي دوماً عن مصدرها الأساس، والمصدر الأساس إن كانت عن شخص يكون صاحبها، وإن عن مؤسسة اجتماعية، أو جهة عمل تكون مظانها الرئيسة جهاتها... وكذلك يُفعلُ بأي توثيق..
ومثل هذا لا يقبل في القول المرسل، والخبر المرتجل، والحديث في المجالس، ووسائل الإعلام، فكيف يُقبل في البحث العلمي، والتدوين المرجعي،.. إذ كلما تقادم عليه الزمن بقي دليلاً، ومرجعاً..!
ففي كل ما يدوَّن لا مكان للانطباع..، ولا للاستبدال..، ولا للتغافل عن الرجوع لصاحب الأمر في حياته، أو للثقات الأمناء عنه بعده.. وإن اختلفت المواقف في اليومي والمعاش بين الباحث أو المتحدث ينبغي ألا تطغى على الحقائق الصادقة تلك أبجديات الأخلاق في الباحث، والمتكلم لا تختلف عليها أيُّ معايير أبداً..!
الصدق يقتضي التجرد، والدقة، والحذر، والأمانة، والموضوعية في النقل، وفي الشهادة، عند ذكر الأسماء وصنعها، والأسماء وتجاربها، والأحداث وحقائقها.. تلك شروط البحث، والتدوين في أولياتها، وأسسها، وأخلاقها.
غير أن هناك كثيرين ممن يكتبون عن أفراد، أو أحداث، أو سير، أو مواقف، أو مراحل لا يسعون لأصحابها الأحياء وهم بينهم يدبون على الأرض..، ومنهم من لم تنقطع تجاربهم..، ولم تخفت أصواتهم، ومع ذلك يدوِّن عنهم أو يقول من لا يحرص على الأخذ منهم مباشرة وهم مصادرها الرئيسة، أو لا يأخذ عنهم من الثقات المرتبطين بهم في حال عجز أولئك الباحثون عن الوصول إليهم ذواتاً، أو عنهم ثقاة..!
الأشد مما يدهش، أن تتضمن رسائل علمية معلومات عن أشخاص، وأوليات مراحل وأصحابها أحياء يدبون على الأرض وتكون خاطئة أو ناقصة، أو مشوّهة، كتبها أصحابها وفي حسابهم أنهم يكتبون عن مجال هم فيه فاعلون، تتضخم لديهم الثقة بأن ما يقولونه سيكون موثوقاً به لارتباطهم بالمجال، وفيها يتغلب لديهم مس الميل للذات، أونفور المجافاة للحقيقة عن غيرها..
إنها معضلة كبيرة تكسر ساق البحث العلمي، وتجرح صدق المتحدث وتفقده الثقة لدى الصادقين من العارفين..
واجهت هذه المعضلة في ثقة التوثيق في كثير مما أسمع في وسائل الإعلام فأعزوه للنسيان والسهو وحسن النية، لكنني واجهتها بضراوته حين طلبت مني باحثة في جامعة الإمام تعد لرسالة عليا أن أحكِّم لها بحثها قبل تقديمه النهائي لإبداء ملاحظاتي في المضمون قبل المنهج، فوقفت في دراستها للمراجع السابقة في موضوعها على هذه الحقيقة وقد ذهبت خميرةً في عجينة بحثها، إضافة إلى الكثير من المقابلات التي يقدّمها الإعلام لبعض شخصيات تقول في كثير عن غيرها ما ليس صحيحاً، فالحقائق أمانة لا ينبغي الخلط فيها لتعزيز الذات، أو الإضافة غير الدقيقة.. لا بنسيان ولا بتعمد.. لأن من سيجيء من بعد هؤلاء سيستقون عنهم معلوماتهم وهي خاطئة، فالخطأ دوماً حين يبنى على خطأ يفني الحقيقة، ويورث الخطأ، ولا نقول عدم الصدق احتراماً للآخر، وتقديراً لحسن الظن..!!
فكيف الميزان..؟ ومن ينقِّي كفَّتيه في زمن كثر الهرفُ، وزيد على الطبخة ماء، وهواء وبعض أهواء..؟!
في حين الثقاةُ هم الأغلب، والخلَّص للبحث هم السواد، وفي مطلق القول لا تضنُّ بكثرتهم الأكاديمية، ولا الثقافة، ولا الإعلام..!