يقول «بيكاسو»: (الرسم: هو الشعر, دائماً يكتب على شكل قصيدة ذات قافية تشكيلية).
يحتل اللون -في المشهد الشعري- أهمية كبيرة، لما له من شحنة دلالية، وقدرة إيحائية، كعنصر رئيس في تكوين الصورة الشعرية.. وتظهر فلسفة الشاعر والشاعرة في التعامل مع الألوان وتوظيفها حسب رؤيتهم الخاصة، باعتبارها رمزاً إشارياً، له عالمه المتصل بذاتهم.وكما قال «سيموندس» أن «الشعر: رسم ناطق، والرسم شعر صامت».
إذ إن الشاعر والشاعرة يصورون اللون لنا بما يحمله من دلالة معبرة عن انفعالاتهم الداخلية، بعيداً عن الوصف اللوني التقريري المباشر, المستوحى من واقع وصفي. فاللون عنصراً مهماً من عناصر تشكيل المشهد الشعري، له مرجعيته المعرفية، وإرهاصاته الخاصة، التي تعبر عن فلسفة الشاعر والشاعرة في التعامل مع الألوان ومدلولاتها، عبر فضاء متخيل بتلك الألوان الممتزجة في أعماق الذات، والمشحونة بدلالات حسية ونفسية، والتي تكتسب وجودها من خلال سياق النص، التي ترد كعنصر أساسي في خواصه الفنية، الجمالية، والثقافية، والمعرفية.. ليحتل اللون فيها طاقة مرئية، مشحونة بدلالات الألوان، وأبعادها البصرية الحسية، وليبلغ لأعلى جمالياته وإيحاءاته، لتخرج إلى الوجود لوحات شعرية ذات أبعاد حسية، وسمعية، وذوقية، ولمسية، مرتبطة باللون في غنائية، تتموج بين : الواقع والخيال، والحلم والأمل، والحزن والفرح. فلنتجول في معرض لوحات الشعراء والشاعرات الشعرية، المكتنزة بالألوان الباردة والحارة، الهادئة والمتوترة، المشرقة بدلالاتها، والمتداخلة بمعانيها، بدلالاتهم والموحية عن ما تكنه ذواتهم الحالمة، إذ أن الألوان في نصوصهم لغة أخرى، وحكاية عميقة جديدة، وصورة شيقة، ورؤية أنيقة، ورؤيا عميقة. والبدر من الشعراء القلائل الذين جمعوا الشعر بالرسم، ومزجوا الرسم بالشعر، مشكلاً منهما لوحاته المتناغمة بشعرية عالية، ونصوص زاهية بالألوان، غنية بالدلالات، ومعبراً عن تفاعله الخاص مع الألوان بحسب مكنوناته وأحاسيسه، وذكرياته وأحلامه، وعن حالته النفسية، وفق نوعية الحبور الذي يسكنه، أو القلق الذي يحمله، والتوتر الذي ينتابه..ومن نص « خضار, وملح يقول :
خضار البحر.. في عينك..
وملح البحر.. في أهدابي..
وعيا البحر..لا يسكن..
أبد..في صفحة كتابي..
فنعت البدر عينها بخضار البحر، دلالة على عمق اللون وكثرته، فالخضار: من الخضرة، والربيع، والخصب، والانسجام، والأمل، والفرح، وكل ما هو جميل، كما نعت أهدابه، وما يسكن عيونه بالملح.. وهنا أتت صفة اللون غير مباشرة من البياض الذي يحمله لون الملح، ولكن يحمل قيمة سالبة، والملح دلالة إيحائية تعبيراً عن الأسى، والحزن، والهم، والفراق..
فهنا.. صورة بصرية وذوقية في آن واحد، وطباق يجمع بينهما حسياً وذهنياً. فالأخضر ممتد، فيما ترى من سعادة وحب وحيوية وحركة، والدمع يبلل أهداب البدر نتيجة البعد والانقطاع والصد، فلم يكتب القدر أن يسجل البحر / الطرف الآخر توقيع الحضور والحبور في صفحة كتابه / أيامه..لذا.. كان الملح حاضراً، والاخضرار نافراً.
أما الشاعر متعب التركي فنجده في هذا النص يجسد تقنية اللون بشكل غير معلن، دون أن يحمل صفة لونية معينة حيث يقول:
زى لون الطيف وألوان الفراش
الهنوف اللى شغلني صدّها
إن بكت جا دمعها مثل الرشاش
وإن تبسّم ثغرها من قدّها
وقد وظفت الشاعرة: الأسمى، اللون بصفة عامة ونستشرف منها وعيها في أهمية اللون كدلالة مكملة للعديد من التقنيات الشعرية، كما أنها تحمل قيمة إيحائية في تشكيل الصورة الشعرية وقيمتها الفنية حيث تقول:
حنا كذا متماثلين
الواننا متماثله
لكن متاهات السنين
اتبعثر اللي تاصله
تنتج لنا لون حزين
يغشى العيون الواجله.
ويقول الشاعر: مسفر الدوسري عن تقنية اللون الأخضر والأصفر في تضاد معنوي والذي أتى بحقل دلالي حسي عاطفي جاعلا النص الشعري أكثر عمقاً في المشهد الصوري, عبر إيجاده شبكة علاقات لغوية مع اللون، وما يحمله من دلالات سيميائية من يوم تفارقنا أخذتِ كل شي..
أخضر معاك
ولا تركتي لي وراك..
إلا التفاصيل النحيلة في يدي..
وبعض حكي.. أصفر
ومن الألوان التي وردت في نصوص الشاعر سعود الصاعدي اللون الأخضر، فتى حاملاً دلالات الخصب والنماء والغطا والتسامح بلغة سلمية بعيدة عن السواد، في مفارقة شعرية، مليئة في الإبداع والإمتاع.
وانا لولا شعوري ما عجنت الشعر بالصلصال
ولا شبّيت ناري فالطريق اللي يعنّيني
قريت البسملة وأشرقت شمسٍ في عيون الضال
ومدّيت الجسور الخضر بين أضدادي وبيني
أما الشاعرة: عيوف فقد استخدمت الانزياح في تفعيل اللونين الأبيض، والأسود في معادلة عاطفية، ودلالة حسية عن الحب والحيوية والنبل في صورة حسية مجردة حيث تقول:
قلبك بياضٍ ما عرف معنى السواد
وعينك تغضّ الطرف ما تعرف تخون
ولنتمعن في اللون الأبيبض عند الشاعرة فتاة نجد، وما يحمله من دلالالة في لوحة شعرية غارقة بالحسية، ناقلة إحساسها العاطفي عبر تقنية اللون:
على نحى بيض الأحاسيس سارت..
مشاعري وإحساس قلبي دليلي
وشوق مفاهيم الغلى فيه شارت..
للقلب من قلب سبيله سبيلي
أما الشاعرة: عبير بنت أحمد، فلها مع تقنية اللون حضور عميق الدلالة أنيق الرؤية وعيها بأهمية اللون وتجلياته الحسية، أثره النفسي وانعكاسه في التجربة الشعرية عموما:
واحترت في أصلي وانا شمع أو طين
العين ذابت وابيض الوجه صافر