في المقالة السابقة تحدثت عن بعض الملاحظات على كتاب «الخطاب الأدبي وتحديات المنهج» للدكتور صالح بن رمضان الأستاذ في كلية اللغة العربية بالرياض، وكانت قد سقطت إحدى فقرات المقالة، المذكور فيها اسم المؤلف عند إعادة مراجعته. وفي هذا المقال أواصل الحديث عن الكتاب وما فيه من ملاحظات أرى أنّ الكاتب قد جانبه الصواب فيها. فعلى الرغم من أنّ الكتاب في تحديات المنهج، فإنّ ما يلفت الانتباه في الموضوع أنّ الكتاب خال من المنهج، فمن يقرأ الكتاب لا يستطيع أن يدرك المنهج الذي اعتمد عليه المؤلف في إعداد كتابه، أهو المنهج التاريخي، فكان يقف على تطور النظرية النقدية، والكتب المؤلفة فيها، فينظر فيما استفاده اللاحق من السابق، وما أضافه إليه وتأثير ظروف كل مرحلة تاريخية على النظرية، وما تأثير النظرية على المرحلة التاريخية، ولم يعتمد المنهج التحليلي الذي يقسم الأفكار بحسب موضوعها، أو ما تندرج تحته من أصناف ومدارس، وقضايا، ثم يبحث في العلاقات بينها، وأوجه التشابه والاختلاف، والقصور والاختصاص. صحيح أنه قسم وفق مداخل كما سبق القول في المقال السابق، إلاّ أنّ معالجة كل مبحث لا تعتمد على منهج واحد ينتظم القول بحيث يقدم قضية واحدة تتقاسمها فصول الكتاب وفق رؤية واحدة، مما جعله يغلب عليه التكرار والاستطراد كما سبق القول.
تناول الكاتب إشكالية المثاقفة في الدرس الأدبي الحديث، وشنع على الباحثة نبيلة إبراهيم حديثها عن الربط بين نوايا الكاتب وعواطفه وأشكال اللغة التي يستخدمها، وذكر أنّ هذا الربط لا «يمثل موضوعاُ من مواضيع الدرس الأدبي». والعجيب أن هذا الموضوع قد ذكره كثير من الدارسين من العرب أمثال صلاح فضل، وعبد السلام المسدي، ودراسات الأخير على وجه الخصوص بالأسلوبية مشتهرة معتبرة لدى الدارسين، ومن الدارسين الأوربيين من أمثال تودورف في المعجم الموسوعي لعلوم اللغة، وبيير جيرو في «الأسلوبية» الذي نص على أنّ الأسلوبية التعبيرية تهتم بتناول «القيمة الأسلوبية لأدوات التعبير مثل التلونات الوجدانية، والإرادية، والجمالية، والتعليمية». الأمر الذي يعني أنّ تشنيع الباحث على نبيلة إبراهيم لا وجه له من الصحة، ونفي معرفته بمن يقول ذلك لا يعني نفي وجودها، وقديماّ قالوا: إنّ المثبت مقدم على النافي لأنّ المثبت لديه زيادة علم.
يذكر الكاتب في حديثه عن الشعرية التوليدية، والبنية الإغراضية عدداً من المصطلحات تتصل بالبداوة كالفضاء البدوي، والقصيد البدوي، والثقافة البدوية، وهي مصطلحات لم أستبن معناها، أكان يقصد بالبدوي الصحراء مثلا؟ أم التخلف والجهل، والعنجهية؟ وكيف يختلف القصيد البدوي عن القصيد الحضري؟ هل بالمعاني أم باللغة؟ فالحضري الذي يدل على الرقة، والعذوبة كما يصوّر بعض الناس، والبدوي هو الجلف الأرعن الذي لا يدرك معنى الرقة والعذوبة؟ ألم تكن الحياة العربية الأولى في العصر الجاهلي مملوءة بنعيم العيش، والدلالة على رقة الحياة كما في المعلّقات مثلاً ؟ يبدو في بداية الحديث أنه يقصد بالبدوي الشفوي حين يقابله بملكية المدينة، لكنه بعد ذلك لا يلتزم بهذا المفهوم فيتجاوزه ليعتبر التزام الشاعر بتصوير الواقع والبعد عن التخييل جزءاً من السمة البدوية، واعتبار ذلك نوعاً من السطحية الفكرية التي يلتزم فيها الشاعر أو المنشئ بلون واحد من الأغراض والأبنية التعبيرية، الأمر الذي يحد من القدرة على استخدام نظام التمثيل، ولغة الرمز، وقواعد التخييل.
كل هذه المعاني لا تتصل بالبداوة التي تقابل الحضر والحاضرة، فالشفوية قد تكون بالبادية كما تكون في الحاضرة، ومثلها عدم الإغراق بالرمز والتمثيل، أو البعد عن الإغراق في التخييل، وقد استمرت هذه الحال في الشعر العربي التي يشير إليها الباحث، استمرت في الشعر فيما بعد في العصور العباسية وما تلتها بل إن بعضها أصبحت جزءاً من جمالياته، فهل يعني هذا أنّ حالة البداوة استمرت في العرب بوصفها حالاً لازمة لا تتحوّل من خلال تحوُّل مكوّناتها وذوقها إلى جزء من تكوينهم المعرفي والثقافي؟ في الشعر الجاهلي نجد الصورة المرهفة الدقيقة كما لدى عنترة، ونجد التصوير الدقيق لملامح الحياة الحضرية والبدوية على حد سواء كما لدى طرفة، ونجد أيضا ذم الحرب، والدعوة إلى السِّلم الذي هو صوت الحكمة والمدنية كما لدى زهير. هذه الملامح تجعل الحكم ببدواة القصيدة حكماً غير علمي، ولا موضوعي، ولا يستقيم مع المصطلحات العلمية، ويوحي بالانتقاص من هذه الثقافة، وذلك الأدب.
إلى هذه الملاحظات هناك ملاحظات أخرى تحتاج إلى مناقشة بشكل كبير لا يتسع مقام القول له هنا، وسأختم المقالة بالتعليق على فهم الكاتب للعنصر الأجناسي المميز لكل جنس، فالذي يبدو من حديث الكاتب أنه يرى أن وجود العنصر الأجناسي المميز للجنس الأدبي في نص ما، يجعله يتحوّل إلى الجنس الأصلي الذي يميزه هذا العنصر، فعندما تحدث عن المقام الخطابي، جعل حديث الجاحظ عن الخطابة العربية القديمة يعني الخطابة بمفهوم أرسطو التي تعني الإقناع بعيداً عن الجنس الأدبي التي تشتمل عليه، وألغى الخطابة في المفهوم العربي بوصفها جنساً قائماً بذاته «فهي لا تنتمي ولا تنتسب إلى أي جنس خاص متميز» ، والمعلوم أن مصطلح الخطابة كما لدى أرسطو غير معروف عند العرب بوصفه مصطلحاً فامت حوله الدراسات والبحوث، والمعروف هو الخطابة بمعنى الخطبة، فالخطابة في العصر الجاهلي أو الإسلامي أو الأموي تعني الخطب، وحديث الجاحظ عن أدوات الخطيب يدخل في هذا الحقل، والخلط بين الخطابة العربية والخطابة لدى أرسطو لأنها تشترك معها في بعض الخصائص مثل الخلط بين الخطاب بمعنى الرسالة والخطاب بمعنى ديسكورس «DISCOURSE» بناء على أنّ الاشتراك اللغوي وأنّ الأول يحتوي على شيء من الثاني وهذا خطأ بين. وإلغاء الخطابة العربية لصالح خطابة أرسطو مثل إلغاء الخطاب لصالح الديسكورس.
ومثل هذا يقال عن العنصر الأجناسي المميز للشعر، فإذا كان مثلاً العنصر الأجناسي المميز للشعر هو الوزن فإنّ هذا يعني أنّ النظم أصبح شعراً، وإذا كان العنصر هو الشعور والإيحاء، فإنّ النثر المتسم بهذه السمة أصبح شعراً، والشعر الذي يعتمد الإقناع وأدوات الخطابة يصبح خطبة. وهنا يقال إنّ العنصر الأجناسي قد ينتقل إلى جنس أدبي آخر فلا يصبح هو العنصر المميز للجنس، وإن كان قد يؤدي إلى تميز النص بوصفه حالة مفردة متميزة يسهم في قراءته مما هو مبسوط في الكتب المتخصصة.
الرياض