أكثر الناس إحساناً هو من يدعوك إلى خير العمل
وخير الناس لك هو من ينهاك عن المعاصي
وأقرب الناس إليك الذي يذخرك المحبة ويصطفي لك النصح
يدعوك للجنة في الوقت الذي تجرجرك اللذائذ إلى النار
وعمي عبدالمحسن الدريس (شقيق والدي يحفظه الله)
هو من ذلك الفصيل الذي كان يمثل الناس وينوب هو وزملاؤه في العمل عنهم فيذكرونهم بحلول الصلاة خلال انغماسهم بمشاغل الدنيا وفقاً لقوله تعالى {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ} كان عمي الذي توفي قبل أيام إلى رحمة الله يعمل قبل أكثر من 50 عاماً في هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الرياض وكنا في -صغرنا- نسكن سوياً والدي وعمي وأسرتيهما في منزلنا في شارع الجامعة في الملز وكان عمي يرحمه الله يذهب إلى مقر عمله الميداني في شارع جرير والمتنبي سيراً على الأقدام ينبه للصلاة ويدعو إليها كل الذين يمر بهم في طريقه (في شارع الجامعة والستين) وكان لفرط تسامحه ولطفه يسلم على كل أصحاب المحلات والحوانيت ومحطات الوقود وكان يرحمه الله معروفاً لديهم لأنه يذكرهم ولا يخاصمهم ويحسن النية فيهم ولا يتهمهم وقد يمضي في طريقه وبعض أصحاب المحلات لم يغلق المحل لأنه منشغل في تلك اللحظة بل إن بعضهم يدركه الوقت فيضطر إلى فرش سجادته والصلاة في محله.
مر عمي يرحمه الله مرة وكنت في أحد المطاعم مع بعض زملاء المدرسة يدعو لصلاة العشاء ولم يدخل المطعم ولكنه قال عبارته المتكررة عابراً «يا الله صلوا هداكم الله يا مصلح يا قايد» اخلص يا منصور ثم ذهب قليلاً وعاد يكرر الدعوة للعاملين في المطعم بأسمائهم فسألت أحد العاملين عن هذا «النائب المحتسب» وأثنى عليه وعلى خصاله ولطفه وذكره بالاسم فقلت للعامل مزهواً: هذا عمي.
كان عمي وكذا الحال مع رجالات الهيئة في ذلك الزمان مخلصين في عملهم وعلى قدر وافر من التسامح وعلى مبعدة من التشدد والغلظة.
حدثنا عمي في أكثر من مرة عن كشفهم لبعض الأوكار التي تقوم بتصنيع «الخمور» أو ما يسمى العرق تحديداً وكان يروي للرجال في المجلس كيف يتولون تسجيل المحضر والمعاينة ثم يقومون بعد ذلك بسكب هذه البراميل الممتلئة بالعرق ولا زلت أتذكر عبارته وهو يصف الأمر بقوله: «نكب» هالخمور المخيسه الله يخس اللي يشربونها».
كان يرحمه الله ككل الناس في ذلك الحين مهموماً بفلسطين المحتلة قضية العرب الكبرى والوحيدة ولهذا كان ملازماً في الغالب للراديو الذي كان سيد الساحة الإخبارية في ذلك الحين وكان يضع المؤشر على صوت العرب من القاهرة وبعد أن يستمع إلى أخبارها وأخبار إذاعة الشرق الأوسط يذهب فوراً إلى إذاعة لندن ينصت إلى أخبارها وعندما كنت أستكثر فيه هذا التنقل وأدعوه للاكتفاء بصوت العرب أو هنا لندن لتكرر نفس الأخبار كان يرد علي ويقول إن صوت العرب يا ولدي ماهم تكانه!! أي غير موثوقين ولهذا آخذ الخبر اليقين من لندن!
رحم الله عمي عبدالمحسن الذي أسهم في تربيتنا وتعويدنا على الصلاة في وقتها مع أبنائه مشتركاً مع والدي أطال الله في عمره في نفس الدور الذي كان مشاعاً بينهما وبين أبنائهما فقد كنا ولله الحمد ولا زلنا نمحض المحبة بعضنا للآخر وقد استمرت العلاقة الأخوية الوطيدة ولله الحمد طول العمر خلال فترة السكنى المشتركة والتي امتدت لأكثر من عشرين عاماً وحتى بعد أن استقلت الأسرتان كل في منزله الخاص إلا أن التواصل بقي مستمراً على حالته المثلى. ستبقى ذكراك يا عمنا وأبونا الآخر عاطرة في أفواهنا ومحفورة في عقولنا مغروسة في كل أوردتنا وسنحرص -أنا وإخوتي- أن يستمر لك الأجر والثواب بالدعاء لك جنباً إلى جنب مع أبنائك وبناتك الأعزاء حتى لا ينقطع عملك الصالح.
فنم قرير العين بعد كل هذا الإحسان الذي قدمته في حياتك.