** بين الظلِّ والضوءِ علاقةُ امتدادٍ وارتدادٍ يلتقيان عبر خطٍ يصلُ ويفصلً ويبقى كلٌ منهما محتفظًا بمفاتحِ استقلاله ومساحات استغلاله، وفيهما - لمن شاء- متكأُ مدىً وارتحالُ صدى، وفينا من يعشق الضوءَ وفينا من يأوي إلى الظل، وكذا تمضي الحياةُ بين المفتتِنين بالشمس والقانعين بالظلال.
** لا تكفي بعضَنا شمسُ الحقيقةِ فيخترعً شموسًا أخرى، ولا يكفي آخرين ظلُّ الهدوء فيبحث عن ضجيج الفيافي، ويلتقي الجمعُ في منافي الحياة وفراغ الكلمات، ويتقلبون بين حرِّ الوهج وصقيعِ السكون، وكذا يعيش المُؤتزِرون بالصمت والمأسورون للصوت.
** يذكر من أيام الصِّبا تطلعَه للقاء الكبار وفرارَه من الصغار، والزمن هنا ليس مقياسًا للاحتكام بل الموقف، ولا ينسى في أول العشر الثانية من عمره يوم أدار ظهره لنجمٍ مجتمعيٍّ حين أحسَّ في نجوميته الموقدة ملامحَ منطفئة، وتكرر الموقفُ عبرمواقفَ إذ دنا من دوائر مشتعلة ورأى كبارًا ينحسرون وصغارًا ينتشرون، والفوارق شموخٌ يزينه تواضعٌ وسلوكٌ لا ترتديه ضعة.
** جاء الحوار الأهمُّ حين سأله أحدهم عمَّا يجدُه من جمال البريق فحدَّثه عن مساوئِه، ولم ير السائلُ احتمالَ التخلي فأيقظه المجيب بمشاعل التجلي، ولا فرق هنا بين ظلٍ مضيء وشمسٍ لذيذة، والمنتهى بين الرؤيتين قراءةُ التوقيت الملائم لمغادرةِ الأضواء، وألحَّ في استفهامه حول صعوبة القرار فمن اعتاد حياةَ يصعب عليه تغييرها، وكيف يتنازل طواعيةً عن جاذبية الإشارات المُومئة والعيونِ الملتهمة؟
** تغيب داخل هذا الجدلِ معادلةُ البقاء والفناء؛ فلا شيءَ خالدٌ بملامحه ولا حتى ملاحمه، وليس أضعفَ من ذاكرة الإعلام والسياسة فهالاتُ الضوءِ المُعشية تُمسي خطوطُ ظلامٍ موحشة، ومن كان ملءَ السمع سيغدو رقمًا تائهًا وسوف تنحسرُ الشمس ويمتدُّ الظل؛ فلن يبقى الزعيمُ والنجم إلى الأبد ولن يتصلَ دويُّ الأكفِّ المصفقة لهما وسيعودان إلى حيث خلَّفا نفسيهما بعدما انشغلا أو تشاغلا.
** لدينا نماذجُ وعت معادلة «الضوء والظل» فلم تأبه بانتشارٍ وانحسار، وبيننا علماءُ أعلامٌ لا نملك أمامهم غير الإكبار لعمق معلوماتهم وجمال شخصياتهم ويندر وجودُ صورٍ لهم وربما قابلناهم دون أن نعرفَهم، وهو النهج الذي سار عليه معظمُ النابهين من المنقطعين لمشروعاتهم العلمية والمخلصين لأدوارهم العملية، وحين سئل الجغرافيُّ الراحل الشيخ سعد الجنيدل عما جناه من الشهرة قال إنه لم يلقَ منها سوى الأذى.
** الشمسُ تغيبُ والضوء ينطفئ ويبقى الظلُّ موئلًا للمسترخِين والمتعَبين والمعروفين والمجهولين، ويومًا سيفيءُ إليه الجميع فيلتئمُ فيه من طاروا عجلى ومن ساروا الهوينى، وربما خسر المعجبون بذواتهم رصيدَهم الإنسانيَّ الأجملَ حين استجابوا لبريق النجومية فعلَوا وتعالَوا ووهموا أن التراب يوسخ أيديَهم وما دروا أنه يُطهرُها.
** التعبُ مأل المسير والظلُّ اتقاءُ الهجير والركضُ مصيرُه التعب والعاقل من وُعظ بغيره، وشهدنا من فُرشت لهم الأرضُ يومًا ثم نُسُوا دومًا، والاعتزالُ يشبه التقاعدَ إذ لا عزلَ ولا إقعاد.
** الغيابُ إياب