دعا العالم والشاعر الألماني غوته إلى فهم المتغيرات، وإلى النفاذ داخل الظاهرة وفهمها بلغتها ذاتها، ودون ذلك لن يتكون عقل يتوافق مع الظواهر الجديدة، وما يحدث في العالم العربي هو أحد المشاهد التي تعبر عن الظواهر الكبرى، والتي مرت على مختلف المناطق في العالم بدءاً من أوروبا الغربية، ومروراً بأمريكا الجنوبية وأوروبا الشرقية وشرق آسيا، ومنهج غوته يقوم على كيفية النظر في داخل تلك المتغيرات، وهي الطريقة الفعالة لمعرفة صفات الظاهرة، ولكي تجعلنا نعي خواص القادم وتنوعه ومتغيراته.
لعل أكثر صورة تعبيرية تعبر عن النفاذ الأمثل داخل الظاهرة ما فعله الحزب الشيوعي الصيني، والذي استطاع النظر بوضوح إلى ألوان الظاهرة العالمية الجديدة في المجتمع الصيني، والمعبرة عن التحرك في اتجاه الحرية والرفاه والإنجاز، وبدلاً من معاداتها تم احتواؤها في برامج جديدة نقلت الصين من قلب الشيوعية إلى داخل الظاهرة الليبرالية الجديدة.
ما يحدث في العالم العربي من متغيرات كبرى ليس نتيجة للمؤامرة السياسية التي دُبرت في ليل، ولكن نتيجة لمتغيرات كبرى تحدث داخل المجتمعات العربية، والتي من أهمها جمود الأنظمة السياسية واختلال الهياكل الاقتصادية، وارتفاع معدل الشباب، ووجود نسبة بطالة عالية بينهم، بسبب ازدياد الفجوة بين الأغنياء والفقراء وتفاقم الفساد، ويمكن القول إن ما تشهده المنطقة كان نتيجة لانفجار المشكلات الاجتماعية الداخلية، وزيادة الوعي حول قضية الانفراد بالثروات من قبل بعض الفئات، وهو ما دفع البقية التي تعاني من التهميش للخروج عن الطود، وأحداث المشهد الأول من المتغيرات الكبرى.
إنكار حقيقة المتغيرات الكبرى عادة لا يجدي، بل العكس قد يؤدي إلى نتائج عكسية، وإلى دمار شامل كما حدث في سوريا، وذلك عندما قررت السلطة الحاكمة مجابهة التغيير بالسلاح، فكانت الكارثة، والتي لن تتوقف عند ذلك، فالشعب خرج، ولن يعود إلى منازله، والتاريخ عادة لا يعود إلى الخلف، ولو أن السلطة السورية تعاملت مع خروج الجماهير بمحاولة فهم ما في داخل الظاهرة، لربما حدث التوافق وعاش الجميع في ائتلاف سياسي يقلل من ضحايا التغيير.
كذلك هي الصورة ذاتها في مصر وليبيا وتونس واليمن، فالمتغيرات الكبرى حدثت لأن الوضع الداخلي كان متمزقاً، ولم يعد يلبي أماني وطلبات الأجيال الجديدة، لذلك كانت موجة التغيير موجهة ضد استبدال السلطات القديمة إلى جديدة، ولا زال الصراع في مراحله الأولى، وستكون نهايته بانتصار الموجة الجديدة مهما كان الثمن، لذلك عادة لا تجدي محاربته، ولنا في تاريخ الدول في أمريكا الجنوبية وأوروبا الشرقية خير مثال.
ما تحتاجه الدول الخليجية أن تغوص داخل الظاهرة، وأن تميز ألوانها من أجل فهمها وتحقيق ما يجنبها، ما حدث في تلك الدول على أن تتحول النظرة السلبية إلى تلك التي تبحث عن التفاصيل من أجل إحداث التوفيق بينها وبين الماضي، وعليهم أن يدركوا التجربة الصينية جيداً، والتي قدمت مثالاً نموذجياً للإدارة التي استوعبت المستجدات فكانت النتيجة دخول الصين إلى مدار الاقتصاديات الكبرى في العالم من أوسع منافذة.