اطلعت على رد للدكتور عبدالله المعيدي على صفحة «عزيزتي الجزيرة» يوم الجمعة الماضية، على مقال كتبته عن وباء كورونا وعلاقته المباشرة بالإبل، وحسب وجهة نظري يعتبر رده نموذجا لخصوبة بيئة التطرف في المجتمع، وذلك لأن أساليب بعض الدعاة يميل إلى فرض رأيه بصورة قطعية لا تقبل الموضوعية والشك المنهجي، وعادة ما يبدأ حواره باتهام صاحب الرأي المخالف بالجهل المركب، ثم يتلوها بتهمة تكذيب سيد الخلق عليه أفضل الصلوات والسلام، وذلك في طريقه لإطلاق تهم أخرى، التي قد تصل إلى ما لا يحمد عقباه، وذلك نهج ابتلينا به في هذا العصر، ويؤدي إلى شحن الأتباع بالكراهية للآخرين المخالفين لآرائهم، وقد شهدنا كيف أدى ذلك إلى ظهور ظاهرة الإرهاب.
في حين تعامل المسلمون الأوائل مع النقل بطرق أكثر علمية، وأقرب إلى ما توصلت إليه مرجعيات النقل العلمي في عصر العلم الحديث، وهو ما مهد إلى إيجاد صيغة للحقيقة العلمية القطعية الثبوت، ولكن بدون دوغمائية مطلقة في الطرح، وقد اتفق علماء المسلمين الأوائل أن النقل ينقسم إلى بابين، باب النصوص الدينية القطعية النقل بالتواتر، وباب نقل الأحاديث الآحاد والظنية الثبوت، والتواتر عند الفقهاء والمحدثين والأصوليين هو: رواية جمع عن جمع يستحيل تواطؤهم، والمقصود أن يكون رواة الحديث، في كل طبقة قد بلغوا عدداً لا يعقل معه اتفاقهم على الكذب.
وعن أخبار الآحاد الظنية الثبوت كحديث بول الإبل، قال الإمام النووي في شرح صحيح مسلم ج1ص131: (وأما خبر الواحد فهو ما لم يوجد فيه شروط المتواتر، سواء كان الراوي له واحدا أو أكثر واختلف في حكمه)، ومما يدل على أن خبر الآحاد لا يفيد العلم القطعي، ولكنه قد يفيد الظن أن الإمام مالك كان يرده إذا تعارض مع عمل أهل المدينة على ما ذكر عنه، وعند أبي حنيفة خبر الواحد لا يوجب علم اليقين، وإنما يوجب العمل تحسيناً للظن بالراوي فلا تنتفي الشبهة به، ومما اشتهر عن أبي حنيفة أنه كان يرد خبر الواحد إذا تعارض مع القياس أو كان مما عمّت به البلوى.
وسأكمل من عند حكم الإمام أبي حنيفة في هذا الشأن، فقد عمّت البلوى بسبب الإفراط في شرب أبوالها وحليبها والعيش بالقرب من مواطنها، وقد اصطدم حديث شرب بول الإبل بالبلاء المهلك للمسلمين، فهل يصح يا دكتور أن نلزم المسلمين بجواز شربه، أم أن الواجب أن يخرج بيان رسمي من وزارة الصحة يحذر من شرب حليب وبول الإبل، وينهى عن الاقتراب من مواطن الإبل التي تفوح منها روائح البول وغيرها من مخلفات الإبل التي قد تكون بؤرة لانتشار مرض فيروس الكورونا، وإذا كان الدكتور المعيدي يصر على التعامل مع الكارثة الوبائية الحالية من خلال منظور ديني، فقد وجدت له ولوزارة الصحة مخرجاً، وهو استدعاء نصوص وأحاديث صحيحة تحذر من الإبل ومواطنهم وإعطانهم ولحومهم.
يرى شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- أن الحكمة في كون أكل لحم الإبل ينقض الوضوء، وغيره من اللحوم لا ينقض، (إن الإمام أحمد وغيره من علماء الحديث زادوا في متابعة السنة على غيرهم، بأن أمروا بما أمر الله به ورسوله مما يزيل ضرر بعض المباحات، مثل لحوم الإبل، فإنها حلال بالكتاب، والسنة، والإجماع، ولكن فيها من القوة الشيطانية ما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «إنها جن خلقت من جن»)..
فأكل لحمها حسب تفسيره قد يورث قوة شيطانية، تزول بما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم من الوضوء من لحمها، كما صح في الحديث الصحيح في البخاري (أَن الْغنَم مِنْ دَوَاب الجَنةِ وَالْإِبِلَ خلِقَت مِنَ الشيَاطِين)، وعن البراء بن عازب قال: سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في مبارك الإبل فقال: ((لا تصلوا في مبارك الإبل، فإنها من الشياطين، وصلوا في مرابض الغنم فإنها بركة))، (صحيح) انظر حديث رقم: (7351) في صحيح الجامع للشيخ الألباني رحمه الله.
عن عبدالله بن مُغَفَّلٍ المُزَنيِّ رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((صلوا في مرابض الغنم، ولا تصلوا في أعطان الإبل، فإنها خلقت من الشياطين)) صححه الشيخ العلامة الألباني رحمه الله في سنن ابن ماجه. (حديث رقم 769)، وقال الشيخ سليم الهلالي (حفظه الله): صحيح لغيره (انظر موسوعة المناهي الشرعية (1/436).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: ((إن لم تجدوا إلا مرابض الغنم وأعطان الإبل، فصلوا في مرابض الغنم، ولا تصلوا في أعطان الإبل، فإنها خلقت من الشياطين)). (صححه الشيخ العلامة الألباني -رحمه الله- في سنن ابن ماجة حديث رقم 768).
بعد هذه الأدلة الصحيحة، هل تجزم قطعياً يا دكتور، كما ورد في النصوص الواردة في كتب الصحاح، أن الإبل مخلوقات من شياطين، أم ترى -حفظك الله- أن الشيطان المقصود ربما كان فيروس الكورونا، وغيره من الأمراض التي تنقلها الإبل، وبعد هذه الأحاديث الصحيحة عن الإبل هل تصح تلك المغالاة للإبل بين الناس، التي تُقام لها المهرجانات في مواطنها في الصحراء؟، وهل يصح شرب أبوالها، بعد أن نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في إعطانها، وبعد أن أمر المسلمون بالوضوء بعد أكل لحومها، وهل يجوز التعامل والتباهي والتفاخر مع حيوانات خُلقت من الشياطين..
أما أن الأمر برمته يحتاج بالفعل إلى عقول تفهم بموضوعية خلفية النقل، كما أدركها الإمام مالك والإمام أبوحنيفة وغيرهم من علماء الإسلام العظماء، وأخيراً أتمنى أنني أزحت قليلاً من غمامة القطعية التي جلدتوا بها الناس جيلاً وراء جيل، على الرغم من أن المسلمين الأوائل تعاملوا مع النصوص القطعية المتواترة والظنية الآحاد بموضوعية وشفافية عالية، ولم يلقنوا الأجيال تلك القطعية الدوغمائية، التي لا يمكن أن تخرج إلا من عباءة الجهل المركب للدين القويم.
في المقال المقبل سأتناول الفرق بين المتواتر القطعي وبين أخبار الآحاد في البحوث العلمية في الطب وغيرها من العلوم التجريبية، والله المستعان.