** هذه التقنية بقدر ما تسرنا أحياناً.. تسوؤنا آونة أخرى!.
كنت بالطائرة متجهاً إلى دولة خليجية قريبة لبضعة أيام، نزلت من الطائرة وفتحت الجوال فإذا بأول رسالة تنسكب كدمعة وتفيض كجرح.
(وفاة خمسة من أبناء د. إسماعيل البشري ثلاثة أولاد وبنتان رحمهم الله).
لم أكد أصدق!.
أعدت قراءة الرسالة (الجرح) مرتين وثلاثاً!.
زاد ألمي لأنني مسافر ولن أستطيع أن أكون قريباً من الغالي إسماعيل، لكن تحاملت على نفسي وآمنت بقضاء الله وقدره ودعوت دعوة مسافر لأخي الحبيب وأم أولاده بأن يربط الله على قلوبهم، وتذكرت قول الله تعالى: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} أي يرزقه - كما قال المفسرون - الطمأنينة والرضا بقضاء الله.
** استعدت آخر لقاء بأخي أبي محمد د. إسماعيل قبل بضعة أيام بالجوف وإذا به كما عهدته وعرفته: صديقاً محباً، ثم زميلاً فاضلاً بالشورى، محيّاه يمطر مودة وخلقاً وقلبه ينبض استقامة وسلاماً.. وتذكرت هذه اللحظات قوة إيمانه وهو الذي سيقلص الألم بنفسه فليس مثل (الإيمان) مهدئاً للنفوس ومخففاً من الأحزان.
** أيها الحبيب: إسماعيل وأسرته العزيزة:
ذلك قضاء الله وقدره {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُّؤَجَّلًا}.
أجل: كتاب مؤجل لابد أن تنطوي صفحاته والفارق من هو الذي بالصفحة الأولى ومن هو الذي بالأخيرة.
حقيقة الموت كقطار ونحن بالطريق كلنا سنمتطيه والفارق التوقيت!.
واللقاء الأبقى بالمحطة الدائمة مع أحبائنا في جنة النعيم التي لا فراق ولا حوادث ولا أمراض فيها بل نعيم مستديم مع كل الأحبة والغالين.
أدرك - أبا محمد - أن حزنك وأسرتك كبير وعظيم ولكن أؤمن أن إيمانكم أكبر، ورضاكم بالقدر أعظم وأن أملكم بلقائهم في جنة المأوى أجمل وأبهى.
** أخي الغالي إسماعيل: أجزم أن اطمئنانك إلى جنب الله كفيل بزرع مطر الصبر، ونعيم الرجاء وراحة النفس في أعماقك، وحسبك - أيها العزيز - أن تستعيد قول الله تعالى: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ. وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ ، أجل كل من عليها فان، هذا حسبك باعثاً لسكب أمطار الطمأنينة في ذاتك، فالذي أخذ هو الذي أعطى، والمقدّر - مهما عمل الإنسان - لابد أن يأتي، وهذا وحده كاف لنزع رماح الألم، وسيوف الندم من وجدان الإنسان المؤمن.
وما أروع (سكينة الإيمان) - أيها العزيز - إنها وحدها التي تبعث الارتياح في النفس وبالأخص عند فراق الغالين علينا في هذه الدنيا، فكل مؤمن، يدرك أنه فقَد من يحب في لحظات عبور العمر، ولكنه ينتظرهم ويتطلع إلى لقائهم بأمل كبير بالله هناك في دار البقاء والمقر، وما أعظم قول الله تعالى: وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ، الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ، أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ، وإنك بحول الله مع العائلة الكريمة من هؤلاء الصابرين الذين جزاؤهم صلوات من ربهم ورحمة وهدى من الحكيم الرحيم.
واعلم أيها العزيز - وغيرك المعلّم - أن كل الآلام والمصائب مقدّرة، وكائنة، فلا مكان للندم أبداً، ألم تقرأ قول الله تعالى: مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ, لِّكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ .
اللّه، ما أعظم هذه الحقيقة، وما أعظم هذا العزاء من الله: لا أسىً على ما فات ولا فرحَ بما أتى، فكل شيء مقدّر، للأشياء وللأشخاص، وبالمكان المحدد وبالزمان الدقيق.
أيها العزيز: إن ما يعزّيك في الراحلين الغالين أنهم شهداء - بحول الله - طيور من طيور الجنة ستجدهم مع والدتهم أمامكم، وهذا ما يخفف الألم على فراقهم، لأن أمامهم - بحول الله - رحمة من الله ورضوان، ونعيم هو خير من نعيم هذه الدنيا بل بالأحرى من شقائها، إن خير ما أعزّيك به هو عزاء الرسول (صلى الله عليه وسلم) للصحابي الجليل معاذ بن جبل عندما فقد ابنه الوحيد فكتب له الرسول (صلى الله عليه وسلم) هذا الكتاب: (من محمد رسول الله إلى معاذ بن جبل فإني أحمد الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد: فأعظم الله لك الأجر، وألهمك الصبر، ورزقنا وإياك الصبر، فإن أنفسنا وأموالنا وأولادنا وأهلينا من هبات الله الهنية، وعواديه المستودعة، يمتّع بها لأجل معدود، ويضبطها لوقت معلوم، ثم فرض علينا الشكر إذا أعطى، والصبر إذا ابتلي، فإن ابنك هذا كان من مواهب الله الهنية، وعواديه المستودعة، متّعك به في غبطة وسرور، وقبضه منك بأجر كبير، فالصلاة والرحمة والهدى إن احتسبت، فاصبر ولا يُحبط جزعُك أجرك فتندم، واعلم أن الجزع لا يرد شيئاً، ولا يدفع حزناً، وما كان نازلاً فقد كان « وصدق رسول الله.
وما أصدق ذلك الشاعر الحكيم الذي قال:
(إذا قضى الله فاستسلم لقدرته
ما لامرئ حيلة فيما قضى الله)
أجل ما لامرئ حيلة فيما قضى الله، وذلك لنا أكبر عزاء، وآخر ما أوصيك به هو وصية لقمان لابنه في القرآن الكريم: وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ليوفيك الله أجر الصابرين بلا حساب.
** وبعد: أيها العزيز: لم أكتب لك هذه الكلمات واعظاً فـ (غيرك المعلّم)، ولكنها نبضات محب تفاعلت في نفسي فوجدتها تفيض على الورق فأردت بعثها إليك سطور عزاء، خير ما فيها - إن شاء الله - صدق مشاعر كاتبها، وعمق إيمان من بعثها إليه، خلف الله على الغالين شبابهم ورحمهم وأبدلهم حياة خيراً من حياتهم، وجعل قبورهم روضة من رياض الجنة، وحفظك الله وحفظ الأسرة الكريمة، ووقاكم كل مكروه، وجعل طمأنينة الإيمان تسكن قلوبكم، وجمعنا وإياكم بالغالين علينا في دار النعيم والخلود.