قال تعالى: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (35) سورة الأحزاب.
جاء الإسلام إلى الجزيرة العربية في القرن السابع الميلادي حيث لم تكن المرأة العادية شيئاً يذكر، بل ربما وفي بعض الحالات قد يتعرضن للوأد كجزء من ثقافة خشنة تعتمد الغزو وبيع السبايا في سوق النخاسة حيث كانت العبودية أحد الأنشطة الاقتصادية الرائجة، وخاصة بالنساء.
في هذا المناخ ظهرت السيدة خديجة الأرملة الغنية والجميلة التي حالفها الحظ بأن ألحقت محمد بن عبدالله ليقوم بتجارتها ولقيت في هذا الرجل البدوي البسيط الفقير اليتيم رجلاً تتمناه كل امرأة، فماذا تعتقدون فعلت؟ أرسلت إليه مرسولها ليفاتحه برغبتها في الزواج منه.. أي تمكين وقوة تتمتع بها أم المؤمنين خديجة.. وهل تقوى أي امرأة في القرن الواحد والعشرين وبعد كل هذه النضالات في الشرق والغرب أن تفاتح رجلاً برغبتها في الزواج!!! لا أظن امرأة تمتلك من الثقة والتمكين ما امتلكته خديجة آنذاك!
تزوج الرسول وهو ابن الخامسة والعشرين بخديجة وهي في نهاية ثلاثينيتاها (تصور لو حدث ذلك في عصرنا: أي أن تتزوج امرأة بمن يصغرها بخمسة عشر عاما!!) ولم يؤثر ذلك في علاقتهما التي استمرت أربعة وعشرين عاماً أنجبت خلالها خديجة بنات الرسول الأربع، هؤلاء البنات هن فخر العالم الإسلامي إلى اليوم... فلا مسلم اليوم فوق هذه البسيطة يدعي عودة نسبه إلى الرسول دون أن يعود بنسبه إلى واحدة منهن!
لم أعثر على الكثير مما كتب حول الدور المحوري لأم المؤمنين خديجة بنت خويلد في تثبيت دعائم نشأة وازدهار الرسالة النبوية رغم أن السيدة خديجة كانت أول من رعى تلك النبتة واحتضنها حتى أزهرت وانتشرت. كيف؟
ظل الرسول أياماً طويلة في خلوته في غار حراء ولم تتذمر الزوجة الحبيبة من غيابه أو غرابة طباعه وجعلت دارها متسعاً لمن سيكون لاحقاً نبي هذه الأمة، وحين نزل جبريل على النبي للمرة الأولى في أحد أيام رمضان جاء الرسول إلى زوجه مرتعشاً وخائفاً يردد ما أنزله الوحي له عليه من آيات: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ} (1-3) سورة العلق. جاء لزوجته يصيح في خوف: دثروني، دثروني.
تخيل الموقف في تلك اللحظة.. لو أن خديجة كانت امرأة عادية لا تملك الرؤية الثاقبة للدور التاريخي لزوجها فلربما عاتبته قلقة من تصرفه كطفل خائف.. بل كيف لرجل أن يأتي لزوجته ويخبرها أنه تم الاتصال بينه وبين الوحي؟ أي وحي آنذاك؟ كيف آمنت تلك المرأة به وصدقته من لحظته.. لم تتهمه بالجنون أو تشكك في عقله، كما قد نتوقع من رد فعل المرأة العادية.. هذه المرأة كانت تؤمن به وبصدقه وهو ما ثبَّته ومنحه القوة، زوجته الكريمة أم المؤمنين خديجة احتضنته فطمأنته حتي ذهب عنه الروع قائلة: «والله لا يخزيك الله أبداً... إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكَلّ، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق».
ثم أكدت له قائلة: أبشر يا بن العم، إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة، وبهذا تكون أول من أسلم به من المسلمين وأول من أسلم به من النساء، ولتطمئنه أخذته لابن عمها اليهودي ورقة بن نوفل ليؤكد لها وله صدق رؤيته وأنه نبي مرسل؟
هذا ما نتحدث عنه من دور محوري لامرأة واثقة متمكنة ساعدت بشخصيتها ومحبتها المطلقة لزوجها أن تثبت قواعد الرسالة المحمدية، وهذا ما جعلها حبيبة الرسول حتى ماتت عن خمسة وستين عاماً، وكان الرسول آنذاك في الخامسة والأربعين حيث بقيا معاً، ولم يتزوج عليها الرسول مطلقاً وأنجب منها أبناءه الخمسة.
القراءة التقليدية لسيرة السيدة خديجة بنت خويلد - للأسف- لا تؤكد على طبيعة الشخصية الفذة للسيدة خديجة ولا عن دورها في تثبيت الرسول ودعم الرسالة النبوية طوال تسع سنين من حياة النبي بعد نزول الوحي عليه. ما نتحدث عنه هنا هو قراءة جديدة لأدوار حقيقة عاشتها أمهات المؤمنين أمثال خديجة وعائشة أو بعض من الصحابيات كأسماء ذات النطاقين أو فارسات ومدافعات في الوغي، كما هو الدور الذي لعبته نسيبة بنت كعب في حماية جسد الرسول في موقعة أحد.
درسنا السيرة النبوية، ومنذ صغرنا وتكررت عشرات القصص في كل كتب الحديث والفقه والتاريخ والجغرافيا وحتى في المواد العلمية، لكن دور المرأة المسلمة لم يظهر أبداً، وتم تغييب الحقائق لتأكيد دور مدجن وضعيف وقلق للمرأة المسلمة عبر مناهج مؤدلجة تخفي وتعسف الحقائق التاريخية لصالح أدلجتها في حين أن أية قراءة واعية لدور المرأة المسلمة عبر التاريخ النبوي سيؤكد عكس ذلك.
عزيزي المتعلم: بعض ما تدرسه لا يمثل كله الحقيقة التاريخية المطلقة، كما لا ينفيها وعليك أن تعود وتقرأ التاريخ بذهن مختلف وقلّب في عدد من المصادر قبل أن تثق بما يُنقل إليك.