هل تتذكّر كل هؤلاء الأمَّهات، ثمّ لاحقًا (العاملات المنزليات في الغالب!) كم هي المرات التي كان عليهن أن يذهبن مرارًا وتكرارًا في محاولة لإيقاظ هذا المراهق من فراشه فلا يستجيب. تهزه أمه صائحة: محمد.. أو عبد الرحمن أو صالح ولا حياة لمن تنادي.. استغراق كامل في نوم عميق حتَّى يهب الأخ الأصغر مقتحمًا الغرفة في غضب ليصرخ في وجه أخيه.. سنعاقب كما يحصل دائمًا.. بسبك وأنت لا ترغب في الاستيقاظ..، ثمّ تبدأ المشاحنات!
علي المستوى الشخصي.. أتذكر صباحاتي المدرسية... البارد منها والحار وعيناي بالكاد تفتح وأنا أشد نفسي متثاقلة ويد الحنونة أمي تهزني لاستيقظ راكضة إلى مدرستي قبل بدء الحصة. ربونا على ذلك وشهدنا إخواننا وجيراننا وأقرابنا، ثمَّ أولادنا يمارسون ذات الطقس كل يوم... الاستيقاظ مع الفجر.. أشعة الشمس الخافتة تظهر تدريجيًّا وعلى استحياء ونحن في تثاقل وبالكاد نرى الطريق أمامنا.... نخرج من بيوتنا قبل السادسة حتَّى نصل إلى المدرسة قبل أن تبدأ الحصة في السابعة وها هم الآن يبدؤون الحصة قبل السابعة بحيث يضطر الجميع إلى الاستيقاظ قبل أذان الفجر فهل من حكمة فعلاً خلف هذا التبدير العظيم؟ ولماذا يكره معظم التلاميذ وخصوصًا المراهقين منهم الاستيقاظ باكرًا؟
هؤلاء الصغار والمراهقون والبنون منهم على وجه الخصوص كانوا يتبعون ما تمليه عليهم احتياجاتهم الداخليَّة. الكثير من الدراسات الحديثة والبحوث العلميَّة وأبحاث الدماغ في علاقتها بالتعلم أثبتت بكثير من الأدلة أن الاستيقاظ المبكر يؤثِّر سلبًا على التلاميذ ويُؤدِّي إلى مشكلات لاحقة يعانون منها في نومهم وفي نسبة تذكرهم وفي قدرتهم على التركيز إلى الدرجة، التي دفعت الكثير من مدارس العالم وخصوصًا في الولايات المتحدة وكندا إلى تغيير وقت بدء المدرسة إلى حدود الثامنة والنصف أو التاسعة حسب ظروف كل مدرسة وكل بلدة.
يمكن تتبع عشرات من المقالات الأكاديمية حول هذا الشأن في الموقع التالي (واعتذر لأنّها بالإنجليزية ولا سبيل لترجمتها إلا عبر جوجل)!
http://startschoollater.pbworks.com/w/page/60412512/Early%20School%20Start%20Times
هذه البحوث تثبت وبشكل كبير أن لا مبرر علميًا يدفع الطلاب إلى البدء مبكرين، بل هي أثبتت أن هناك علاقة أكيدة بين الكثير من المشكلات التي يعاني منها المراهقون أثناء حياتهم المدرسية مثل قلّة النوم والأرق والاكتئاب وتقلُّبات المزاج وبين اضطرارهم للبدء مبكرين في مدارسهم وهو الأمر الذي يؤثِّر على أدائهم المدرسي، بل ويرتبط بمشكلات لاحقة يعاني منها هؤلاء التلاميذ وكشفتها كثير من الدراسات التتبعية المنضبطة والمنشورة في مجلات طبية وتربويَّة ومنها اضطراب في العمليات الذهنية وفي القدرة على اتِّخاذ القرار ومن ثمَّ على نسبة حوادث السيَّارات! في العينات المدروسة.
وأظهرت دراسة نشرت عام 2014 في مجلة دراسات السلوك والنمو لطب الأطفال أن متاعب النمو والأرق أصبحت ظاهرة واضحة بين مراهقي الولايات المتحدة وأن عددًا من المدارس قد بدأت في تأخير وقت بدء اليوم المدرسي مع متابعة النتائج التي تترتب على هذا التأخير.
وفي مجلة الصحة والتَّعليم عام 2013
http://sheu.org.uk/sites/sheu.org.uk/files/imagepicker/1/eh303ed2.pdf
أظهرت الدراسات أن المراهقين بحاجة إلى عدد ساعات النوم التي يحتاجونها وهم أطفال أيّ بين من 8 الى 9 ساعات لكن ونتيجة للتغير في ساعتهم الداخليَّة فمعظم المراهقين يجدون صعوبة في النوم قبل الحادية عشرة ليلاً ومن ثمَّ يحتاجون إلى النوم في الصباح لتعويض ما فقدوه. وأن البدء متآخرين ولو نصف ساعة (بعد الثامنة صباحًا) حسن نتائج 44 في المئة من عينة الدراسة ممن هم في الثانوية وقلَّل من نسب استهلاكهم للكافيين الموجود في القهوة والشاي والمشروبات الغازية وقلَّل نسبة تغير المزاج، كما أدي إلى تحسن ملحوظ في أدائهم الدراسي!
بالطبع تغير كهذا يبدو صعبًا للغاية؛ لأنّه لا يعني الطالب فقط، بل يعني أهله وساعات عملهم وحركة السيَّارات والزحمة في الشوارع، هذا عدا عن الجداول المدرسية وتعديلها وتعديل الأنشطة المرتبطة بها وجداول المعلمين وغيره وغيره من التفاصيل الكثيرة التي تدخل في تغيير كهذا تمامًا كما حصل من انقلاب حين قرَّرت الوزارة التبدير في المدارس إلى السابعة إلا ربع وما تبع ذلك من تغييرات كثيرة في تفاصيل لا نهاية لها لم يشعر بعبئها إلا الأسرة والمدرسة.
أعرف أن طرح فكرة كهذه غريبة تمامًا على التفكير التربوي المحلي، قد لا تلاقي قبولاً الآن وستتعرض للكثير من النقد خاصة مع الطّبيعة الحارة لبلادنا معظم شهور السنة لكن العالم يتغير وكم الدراسات التي تظهر حاليًّا منادية بضرورة تغيير وقت بدء الدراسة وخصوصًا للمرحلة المتوسطة والثانوية كبير جدًا ولعلنا نفكر مليًّا في اضطرابات النوم الهائلة التي تجتاح ثلاثة أرباع المجتمع السعودي وما يصاحب ذلك من عبث كثير من المراهقين وسوء تقديرهم خاصة عند قيادتهم للسيارة وهو ما يرفع نسبة حوادث السيَّارات التي أظهرت الإحصاءات في السعوديَّة أننا أعلى نسبة في العالم لهذه الحوادث كما أن 70 في المئة من هذه الحوادث تعود للسرعة غير المبرّرة.
طبعًا لا يمكن إلقاء اللوم للمزاجات المتغيّرة للذكور السعوديين على بدء الدراسة الباكر في الثانوية، فلا دراسات علميَّة محليَّة تدعم هذه الفرضية لكن ألاحظ من خلال العمل طويلاً في الجامعة تفضيل الكثير من الطالبات للبدء في محاضراتهن بعد التاسعة (بالرغم من أن الطالبات كنساء يرتبطن في جداولهن ليس برغباتهن الذاتية بل بظروف أسرهن وظروف مواصلاتهن) ومن ثمَّ لا يمكن الاعتماد عليهن كعينة (نظيفة) من العوامل الدخيلة المؤثِّرة في نتائج الدراسات التي ربَّما يجب أن تطال الذكور من طلاب السنة الأولى في الجامعة ومراقبة أوقات نومهم ودرجاتهم وتفضيلاتهم في تسجيل موادهم مقارنة بطلبة الثانوية الذين يساقون إلى حتفهم يوميًّا قبل السابعة ليناموا في الفصول!