في منتصف القرن الماضي كانت دول جنوب شرق آسيا وأمريكا الجنوبية تعيش في مخاضات صعبة وحروب عصابات وانقلابات يمكن تغليفها وتوصيفها بالثورة على واقع مرفوض، وفي ذات الوقت كانت معظم دول أفريقيا تناضل من أجل الاستقلال فيما يمكن إضافته للطابع الثوري ضد واقع مرفوض.
وقد ظهر مصطلح الربيع لوصف الثورة على واقع مثخن مريض في أمريكا الجنوبية أولا ثم اختفى سريعا ليظهر في براغ بجمهورية تشيكيا عام 1968م، لكن الاتحاد السوفييتي أسقط هذا الربيع مثلما أسقطت مخابرات الولايات المتحدة الأمريكية ربيع أمريكا اللاتينية أكثر من مرة، وكذلك الحال في كمبوديا وفيتنام وتايلاند، وما يهم اليوم هو أين وصل الحال بجمهوريات القلاقل والاضطرابات تلك وكيف أصبحت وكم كلف هذا التغيير من خسائر بالأرواح والأموال وهتك بالأعراض وحتى العقول والقيم؟
إن النتيجة التي لا يختلف عليها اثنان هي أن الحال قد تغير للأحسن والأفضل في هذه المناطق من العالم، فصارت بعض دول جنوب شرق آسيا وأمريكا الجنوبية من بين الدول المتقدمة صناعيا واقتصاديا وأكثر أمنا واستقرار واستقلال، وإذا كان الثمن باهظ جدا إلا أن المحصلة النهائية أثبتت أن هذا الثمن كان مستحقا للوصول إلى الحياة الكريمة، وحين اشتعلت الثورة في تونس سميت ثورة الياسمين محاكاة مع الثورة البرتقالية في أوكرانيا لولا أنها امتدت لتصل مصر وتنتشر في أكثر من قطر عربي ليتغير الوصف ويتحد تحت وصف الربيع العربي.
ربيع لم يتجاوز الأشهر حتى انقضت عليه أجهزة الاستخبارات لتقصيه وتقضي عليه أو هكذا تخيل البعض ولا يزال، غير أن ما يجب أن يقال هو إن ورود الربيع اللاتيني لم تتفتح إلا أواخر القرن الماضي وبدايات هذا القرن وإن سبقتها بساتين جنوب شرق آسيا، أي أنها أخذت مداها المستحق في النضوج بعقود من السنين كي تتفتح وتفوح روائحها العطرة، لكن هذا المدى كان قاسيا جدا ومكلفا جدا، وكان بمثابة خروج عن المنطق والعقل، إلا أن ذلك كان من أسس وقواعد الثورات ألا تكون منطقية ولا حتى عقلانية، ولعل أقرب تشخيص للحال في دول الربيع العربي اليوم بعد تلاطمه مع الثورة المضادة هو أنه في حالة ارتداد وهمي للعقل والمنطق إلى المشهد، وقد يكون بمثابة أعراض اللقاحات التي تصيب الجسد لتحميه وتقوي مناعته، وقد حدث مثل ذلك في (نيكارجوا) و(الأرجنتين) و(غواتيمالا)، بل وحتى نظام (فولغينسيو باتيستا) في كوبا الذي أطاح به (كاسترو) ورفيقة (تشي جيفارا) لينشئا ما عرف بالثورة العالمية التي توسعت لتشمل أكثر جمهوريات أمريكا الجنوبية بل وتعدتها إلى أفريقيا وآسيا، واستمرت حروب العصابات بين الثوار والمخابرات الأجنبية عقوداً من الزمن حتى انتهت بانتصار للإرادة الشعبية وتحولت جمهوريات أمريكا الجنوبية إلى دول مستقلة تخدم أبناءها وتحمي مواردها وتطور من اقتصادياتها وغير تابعة لشرق أو غرب.
وبصرف النظر عن وصف الربيع لما حل بعالمنا العربي وبُعده عن المنطق والمعقول كوصف عن واقع الحال، حيث بان وظهر لنا حال التمزق والتشتت والضعف والإنهاك لأقطار عربية كنا نعتقد أنها تملك من المقومات ما لا يمكن معه تخيل سقوطها في مثل هذه المزالق، إلا أن هذا وبالعودة والتأمل في التاريخ لا يبدو جديدا، لكن ما هو غير منطقي ولا عقلاني أن تستخدم نفس الأدوات والسيناريوهات المستخدمة سابقا في النصف الثاني من القرن الماضي، وكأنه إصرار على إنجاحها من قبل خصومها في إبقائها في دائرة اللامنطق واللامعقول، فالثورات الناجحة هي تلك التي تجمع التناقضات والتباينات والفوارق بشتى تنوعها بلا منطقية أو عقلانية في اتجاه واحد، وحين يكون ذلك كذلك فإن الحصيلة هو ما يمكن أن يطلق عليه ثورة ضد واقع مرفوض ينتهي في العادة بتفتح الورود والزهور والرياحين، فكأن الصراع بستان يروى بالدم والمال والمآسي، وكأن الزمن فصل من فصول التاريخ يسمى بالربيع تفاؤلا، وكأن النتائج في النهاية محسومة للربيع الطلق الذي يأتي مختالا بواقع أكرم وأفضل وأقوى.
إن حالة التغير من واقع لواقع تواجه في العادة وباستمرار وعلى مر التاريخ قديمة وحديثه برفض يعاكسه في الاتجاه ويسعى لهزيمته، والمأساة أن يتم ذلك بنفس الأدوات والحيل التي فقط تطيل التأزم وتثخن الجراح، ولو حُكم العقل والمنطق الذي يتناقض تماما مع روح الثورات ويؤد شرورها وظلمها وقسوتها لكان بالإمكان العبور من واقع لواقع بأقل التكاليف، إن في الإنسان أو الأموال أو الزمن.