قام مركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني مؤخراً بمهمة جميلة وجليلة، تمثلت في إجراء استطلاع لآراء المصلين حول خطب الجمعة، ونشر ملخص لنتائج الاستطلاع في صحف يوم الخميس 19 - 5 - 1435هـ.
وقد دأب المركز على إجراء مثل هذه الدراسات الاستطلاعية التي تسد فراغا كبيراً في الدراسات الاجتماعية - على سبيل المثال تلك الدراسة الموسعة حول رأي المجتمع في الخدمات الصحية بالمملكة التي أجراها المركز قبل ثلاث سنوات.
استطلاعات الرأي العام من أهم الآليات التي تعين المخططين وواضعي السياسات على معرفة رغبات المستفيدين واتجاهاتهم، وقياس رضاهم حول الخدمات التي تقدم للجمهور ومراجعة الخطط والبرامج في ضوء ذلك. ومن البديهي أن قيمة الاستطلاع تتأثر بطريقة أخذ العينة ومدى تمثيلها للقطاع السكاني المستهدف. كما أنها تتأثر بطريقة صياغة الأسئلة.
وقد أجرى المركز استطلاعه على عينة ذكر أنها تمثل جميع مناطق المملكة وبلغ حجمها (685) مصليا، وهي عينة صغيرة جدا. وعلى الرغم من حرص الباحثين على منهجية اختيار العينة، فإنه من الصعب اعتمادها ممثلة لقطاع المصلين الذين يتوقع أن يكون عددهم مقارباً لعدد السكان الذكور السعوديين - أي حوالي خمسة ملايين مصلٍّ. لكن الدراسة تبقى مهمة، حيث إنها جمعت وحلّلت آراء ما يقارب سبعمائة شخص من المصلين ؛ وهذا في حد ذاته مثير للاهتمام وربما يحدث لأول مرة. ولعل دراسات أخرى أكثر توسعاً في الطرح وأكبر تمثيلاً للمجتمع تعقب هذه الدراسة الرائدة. ولا بدّ من القول إن المعلومات والنتائج التي توصلت إليها الدراسة - إن كان ما نشرته الصحف دقيقاً - لا تقدم إلا القليل الذي يغلب عليه فوق ذلك طابع العمومية. فإذا كان هدف الدراسة - وهو هدف ممتاز - معرفة التأثير المجتمعي لخطبة الجمعة، فما الذي يعنيه أن ثلثي العينة (مع أن أكثر من النصف لا يتذكر موضوع خطبة الجمعة الماضية) يرون وجود أثر لخطبة الجمعة والموضوعات التي تطرح فيها عليهم وعلى حياتهم اليومية وأن 60% من العينة ينجذبون لإلقاء خطيب الجمعة. ولكن لم يبيّن السؤال ولا الجواب ماهي الموضوعات التي تؤثر، وما نوع الأثر الذي أحدثته في الحياة اليومية، وهل مهارة الخطيب في الإلقاء ومزجه بين الترغيب والترهيب هي التي تجذب المستمعين بصرف النظر عن نوع الموضوع وطريقة تناوله؟ لا جدال في أن شخصية الخطيب وثقافته ومهارته في الإلقاء وأسلوبه في التأثير على السامعين تلعب دورا جوهريا في جذب انتباه السامعين. أما التأثير على حياتهم اليومية فليس هناك على أرض الواقع ما يدل عليه، لأن الموضوعات التي يطرحها خطباء الجمعة وتلامس احتياجات المجتمع بشكل مباشر ليست هي الغالب على خُطَبِهم، وإذا ذكروها كرّوا عليها كرّ السبحة ملحقين بها بعض الآيات والأحاديث. وهذا ما أشارت إليه الدراسة بشكل غير مباشر، حين ذكرت (ضعف التواصل والتفاعل السلوكي المباشر في الشؤون الحياتية اليومية والخاصة على حد سواء بين خطيب الجمعة وأفراد العينة، فهم لا يلجأون إليه لاستشارته في بعض شؤونهم الخاصة). فلو كانت الخطب تلامس احتياجات المجتمع بشكل مباشر لحصل التفاعل السلوكي المشار إليه. إن الملاحظ حقيقة هو ضعف التواصل بين الخطباء والمسؤولين الحكوميين وقادة المجتمع المدني الذين يمكن أن يزودوا الخطباء بمعين لا ينضب من الموضوعات ذاتالمساس بالحياة اليومية، مثل التبذير في الاستهلاك، والمبالغة في الحفلات (الأعراس وغيرها)، ومشكلات الانضباط في العمل والدراسة والمرور والحياة الشخصية والصحية والعائلية والالتزام بالأنظمة المدنية وتعليماتها التي تنظم الحياة العامة وبالمواعيد، وآداب التعامل مع الآخرين واحترام حقوقهم، وتربية النشء على ذلك، ويمكن ضرب أمثلة عديدة وعرض كلٍّ منها في خطبة مستقلة، توضح مداها وعواقبها ومزايا السلوك الحسن في ممارستها مع الاستشهاد بماله صلة مباشرة أو غير مباشرة من آي القرآن الكريم والأحاديث النبوية، وعرض ذلك كله بأسلوب تربوي جذاب.
إن إتقان الجانب التربوي هو الخاصية الأهم في خطيب الجمعة، وليس السرد الخطابي البلاغي. ويكتسب الجانب التربوي قيمة أكبر ويخلف أثراً فعّالاً لو كان بإمكان نساء الحي الذي تقام فيه صلاة الجمعة أن يستمعن إلى الخطبة في بيوتهن مباشرة من خلال تقنيات الاتصال الحديثة. هذا الأمر يتاح الآن بإذاعة خطب المساجد الكبرى عبر الإذاعة والتلفزيون. لكن الاستماع إلى خطيب الحي أجدى، لأن نساء البيت يشاركن رجالهن الذين ذهبوا للصلاة معه في الاستماع إلى نفس الخطبة. ولا أدرى إن كان في وسع شركات الهاتف أن تعمل هذا، أم أنني أحلم. إن أجمل ما قيل في الخبر المنشور عن هذه الدراسة هو ما قاله مركز استطلاعات الرأي العام بمركز الحوار الوطني : (إن خطبة الجمعة تظاهرة دورية من أهم اللقاءات الواجب استثمارها إيجابياً وتنموياً وتنويرياً لتوجيه المسلمين وغرس وتعزيز وبناء القيم والاتجاهات والسلوكيات والأخلاق الإيجابية الحميدة التي يدعو إليها الإسلام وفطرة البشرية جمعاء).
ولم لا؟ ولدينا في المملكة أربعة وتسعون ألف مسجد وجامع، يتوقع أن منها عشرين ألف جامع، يُخطب في كلٍّ منها إحدى وخمسين مرةً في العام، ويُصلِّى فيها ما يقرب من خمسة ملايين مواطن سعودي (وربما مثلهم في العدد من غير السعوديين).
لا أحد بالطبع يريد توحيد الخطب، فالخطباء ليسوا تلاميذ. لكن المراد هو توحيد المعايير، والتوسع والإكثار من الموضوعات التي تمس الحياة اليومية لعامة أفراد المجتمع، وبأسلوب تربوي خالٍ من التكلف البلاغي أو التقريع والتشدد.