لقد رأينا أن نصيب الفرد السعودي من الإنفاق الصحي الحكومي اليوم يبلغ (5500) ريال في السنة، شاملا الإنشاءات والتجهيز والخدمات العلاجية الأولية والثانوية والثالثية، والخدمات الوقائية والتأهيلية وما يرتبط بذلك من خدمات
مساندة والتعليم الصحي والتدريب والبحوث ؛ أما إيرادات التأمين الصحي فإنها تغطى تكلفة خدمات الرعاية الصحية المباشرة التي تقدم للمريض، والتي يجب أن تكون شاملة لجميع مستويات الرعاية الصحية بلا استثناء لكي تحقق شعار (المريض أولا). متوسط قسط التأمين الذي يغطى هذا المستوى من الرعاية في القطاع الخاص (A+) يبلغ 3000 إلى 3500 ريال للفرد الواحد، وهو مبلغ لا تستطيع الغالبية العظمى من السعوديين تحمّله، لأن قدرة بعضها محدودة وبعضها الآخر معدومة، وتنتظر من الدولة أن تدفعه بالكامل أو بالجزء الأكبر منه. على هذا النحو نقف أمام طرفي متباينة أحدهما أن المجتمع يطالب بالتأمين لكي يراجع القطاع الصحي الخاص طمعا في مزاياه، والآخر أن الدولة هي التي تدفع الثمن. فلنبحث عن خيارات يمكن معها تحويل هذه المتباينة إلى معادلة يتساوى طرفاها.
الخيار الأول : تطبيق التأمين الصحي على جميع المواطنين، بحيث تؤهلهم بطاقات التأمين لمراجعة مرافق القطاع الخاص أو مراجعة المرافق الحكومية بدون تغيير في أسلوب تشغيلها وإدارتها الحالية مع إمكان الإحالة بين القطاعين.
تقييم هذا الخيار : مع استمرار نمط الإدارة الحالي تبقى السلبيات وينصرف الناس إلى مراجعة القطاع الخاص، ويدور النظام في حلقته المفرغة كما كان يفعل دائما، مع تحمّل الدولة لعبء الإنفاق المزدوج.
الخيار الثاني : تطبيق التأمين الصحي على جميع المواطنين الذي يخوّلهم مراجعة مرافق القطاع الخاص أو المرافق الصحية الحكومية التي يتم تطويرها جذريا بحيث تدار إدارة ذاتية لا مركزية بأسلوب يشبه أسلوب القطاع الخاص، مع دعم المراكز الصحية بكوادر طبية مؤهلة في التخصصات الأساسية أو في تخصص طب الأسرة و بالكوادر الصحية الأخرى. وبذلك تتقلص الفوارق المسببة لتفضيل مراجعة القطاع الخاص، ويكون التنافس مبنيا على أسس متكافئة. وللقرى التي يوجد بها مراكز صحية صغيرة يخصص لكل مجموعة منها مركز صحي في قرية متوسطة بمواصفات مراكز المدن وفقا للتصنيف الذي تتبعه الوزارة.
تقييم هذا الخيار : يحتاج لجهد كبير من الجهات الصحية الحكومية- خاصة وزارة الصحة، سواء من حيث التنظيم أو القوى البشرية. وربما يمكن تجاوز بعض الصعوبات بإبرام شراكات مع القطاع الخاص في التشغيل أو الملكية بالنسبة للمستشفيات العامة والمراكز الصحية. لكن حجر الزاوية هو الإدارة الذاتية المرنة التي تتحمل المسؤولية.
الخيار الثالث : تطبيق التأمين الصحي على جميع المواطنين مع تخصيص المرافق الصحية الحكومية - أي تحويلها إلى مرافق صحية تابعة للقطاع الخاص، ويبقى للدولة الإشراف العام والتخطيط ووضع السياسات والأنظمة والرقابة وتوفير الخدمات الوقائية.
تقييم هذا الخيار : التخصيص الكامل غير ممكن من الناحية العملية، لأنه يواجه مشكلة الجدوى الاقتصادية بالدرجة الأولى، وهي أساسية بالنسبة للقطاع الخاص. وينطبق ذلك بصفة خاصة على المستشفيات المرجعية والجامعية ذات الإجراءات الطبية المعقدة والكفاءات المهنية العالية، فإن تكلفتها الباهظة لا تغطيها إيرادات التأمين وحدها ؛ كما ينطبق على المستشفيات الصغيرة والمراكز الصحية (المسماة في القطاع الخاص مجمعات طبية أو مستوصفات) في المناطق ذات الكثافة السكانية الضحلة. ولذلك سوف تعمد تلك المرافق إلى تخفيض مستوى الخدمة الصحية لتحقيق الجدوى، مما يخل بمبدأ (المريض أولا) وضمان التغطية الشاملة.
الخيار الرابع : جميع الخيارات الثلاثة السابق ذكرها مبنيّة على أساس التأمين الصحي على جميع المواطنين وقيام الدولة بدفع أقساط تغطى تكلفة تقديم الرعاية الصحية الشاملة بدون استثناءات. وهذا مناسب للوضع الاقتصادي المزدهر في الوقت الراهن. إلا أن بقاء إيرادات النفط على حالها في الأعوام القادمة ليس مضمونا، كما أن عدد السكان في تزايد مستمر مما قد يتطلب زيادة في الموارد لتمويل التأمين الشامل ؛ ولا يتوقع اللجوء إلى الضرائب لهذا الغرض. ولذلك ينبغي أن يكون أحد الخيارات المتاحة هو المشاركة في التمويل - أي إيجاد مصادر رديفة لميزانية الدولة، وتحديد الشرائح التي يشملها التأمين، مع بقاء حق مراجعة مرافق القطاع الخاص أو المرافق الحكومية كما في النموذج التالي:
أولا: تحديد المستويات العليا من الدخل التي لا يشملها التأمين الحكومي (مثل بعض مراتب موظفي الشركات الكبرى والبنوك ورجال الأعمال ونحوهم).
ثانيا: استمرار أصحاب العمل بالالتزام بالتأمين على عمالتهم (سعوديين وغير سعوديين) بأقساط يتفق عليها مع شركات التأمين تغطي الخدمات الأساسية- كالمعمول به الآن. وتقوم الدولة بإصدار تأمين إضافي (يسمى مثلا تأمين عائلي) للسعوديين منهم، يغطي تكلفة بقية الخدمات التي لا يغطيها تأمين صاحب العمل.
ثالثا: بقية الشرائح الاجتماعية من المواطنين تدفع الدولة تكلفة التأمين عليها بالكامل.
رابعا:
أ- إما أن يشمل التأمين جميع مستويات الرعاية الصحية (أي العيادات والمراكز الصحية والمستشفيات والتأهيل الطبي) الخاصة والحكومية، ويتحدد قسط التأمين وفقاً لذلك.
ب- أو أن يطبق التأمين بحيث يغطي تكلفة مراجعات العيادات والمجمعات الطبية الخاصة والمراكز الصحية الحكومية المطورة (كما في الخيار الثاني) فقط، ولا تتم الإحالة لغرض التنويم أو الفحص المتقدم إلا إلى المستشفيات الحكومية. ولمن يرغب في الإحالة إلى مستشفى خاص عليه أن يتحمل تكلفة ذلك مباشرة أو من خلال تأمين خاص.
الخيار الخامس: عوضا عن تطبيق التأمين تقوم الدولة بالتعاقد مع مؤسسات القطاع الصحي الخاص لعلاج من يرغب من المواطنين في عياداتها ومجمعاتها في إطار ميزانية سنوية تحدد حسب عدد المسجلين ونوع الخدمات المتوقعة مع تنظيم إجراءات الإحالة للمستشفيات الحكومية.
في الختام لا بد من الإشارة إلى أن هذا المقال يستعرض فقط الخيارات المتاحة في ضوء رغبة المواطنين المطالبين بالتأمين الصحي في مراجعة مرافق القطاع الخاص، ولا يبحث موضوع التأمين في حد ذاته وطريقة الصرف عليه. ومهما كان الخيار الأنسب فإن تطبيقه يجب أن يأخذ في الاعتبار ثقافة المجتمع وتفضيلاته، وأن يتم ذلك وفقا لهدف النظام الصحي المتمثل في توفير التغطية بالرعاية الصحية الشاملة والمتكاملة لكل مواطن والحصول عليها بطريقة عادلة وميسّرة.