علاقتي الشخصية مع وسائل الإعلام علاقة طويلة معقدة تعود إلى مرحلة مبكرة في حياتي. أتقنتُ القراءة قبل الرابعة والكتابة في الخامسة. وشاركتُ فعلياً في برامج الأطفال والمرأة، ونشرتْ الصحف والمجلات البحرينية والعربية بعض قصصي القصيرة خلال مرحلة الدراسة الابتدائبة والإعدادية، قبل أن أبتعث إلى بيروت لإكمال الدراسة الجامعية، ثم إلى الولايات المتحدة للدكتوراه. وتوقفت أثناء تغربي في الخارج عن الكتابة والنشر والإعلام، إلا في ما ندر، مركزة على الدراسة.
حين عدت في نهاية السبعينات إلى الظهران، مؤهلة متخصصة في الإدارة والتخطيط التربوي للمدى البعيد، اخترت أن أعمل في أرامكو كي لا يكبلني عمل أكاديمي عن تناول أوضاع مؤسسة التعليم بحيادية. وأثار همي وقتها ملاحظة ما استشرى من متقبلات سلبية الأثر، متجذراً في جهل المجتمع ببعض حقائق العلم، والجوانب النفسية للتنشئة، ثم تداخل ذلك بمستجد مرحلة «الطفرة» الاقتصادية وتأثيرها في قيم المجتمع.
آلمني ما وصلنا إليه من ممارسات تتناقض مع أهداف البناء والارتقاء مجتمعياً واقتصادياً؛ مثلاً تقلُص حلم الفرد إلى الحصول على مردود مادي دون بذل مجهود، ومقاومة الاعتراف بأهلية المرأة وحقوقها الشرعية، ومحاربة تمكين المرأة من المساهمة خارج المنزل، بتبرير حمايتها من التلوث خارج الجدران. والاعتماد على العمالة المستقدمة، وتقبل العنف الأسري، وإيذاء الطفل تحت تبرير معاقبته لتأديبه.
استجبت لدعوات الجامعات لتقديم محاضرات حول أوضاع التعليم ومجالات التخصص ودور المرأة. وفاجأتني بكثافة حضورها ورقي التفاعل، مثلما أسعدني احتفاء التلقي في الإعلام المرئي والمسموع، وتواتر دعوتي لإجابة الأسئلة المتعلقة بالتنشئة والتربية والخطط المستقبلية الممكنة.
خلال ذلك ولد تفاعلي عاطفياً بما رأيت من الممارسات على أرض الواقع قصائد شعر تفيض حزناً وعتباً، لم تقرأها بدءاً إلا صديقات مقرّيات، وأولهن الصديقة الغالية الأديبة شريفة الشملان. ومع تكرر حثهن لي على ضرورة نشرها، تغلبت على توجسي من نشر الشعر. وأدى ذلك إلى بحث الصحف عني للكتابة بانتظام. وكان أول من تواصلوا معي لإقناعي بأهمية ذلك للمجتمع د. عبد الواحد الحميد يدعوني للكتابة في جريدة اليوم. تهيبت وترددت. ثم لنت واستجبت لدعوة الكتابة في زاوية يومية سميتها «بيننا كلمة» تناولت فيها على مدى خمس عشرة سنة شتى الشؤون المتعلقة بتنمية الوطن، وعلاقة ذلك بالمواطن والمرأة والدور المناط بها والدور الذي تستطيع القيام به للتطور والتنمية المستدامة.
* * *
مع بداية «الصحوة»، تواصل معي بعضهم للانخراط في «الدعوة» بدءاً بتلطف، ثم بمنتهى الوصاية، وانتهاءً بضراوة تهدد بالويل والثبور في الدنيا والآخرة كل من لا يحول كل كلماته ومناسباته إلى مسرح للدعوة؛ وتحولت العلاقة لحرب أشباح مستترة، تتصدى هاتفياً لمنع أي ظهور أو مشاركة لي في محاضرة أو ندوة أو أمسية شعرية. ونجحوا في حالات قليلة في تخويف الجهـة الداعيـة ومنع المناسبة أو مشاركتي فيها. وكأن ذلك فتح عظيم!!
لـم يحبطني موقف العدائية والاستعداء، لإيماني أن الله أعلم بالنيات، وأنه يختار الصلاح، وأن من يعمل لقضية بناء وعي عام أتقى ممن يركز على بناء الموقع الذاتي مؤيداً بالتصفيق والدعم المنظم ضمن تيار يبني سلطة هيمنة مشرعنة لإيقاف الفرد والوعي العام عن التفكير.
كان واضحاً أن هناك من يضغطون على دفة قيادة مركبة المجتمع كله لينحرف بوجهته، حتى أمسينا متجهين إلى الوراء، وتعثرت مشاريع التطوير الرسمية. ولا ألوم المجتمع فقد كان، وما زال، يخضع لحملة ضارية منظّمة هدفها تعطيل التفكير الذاتي، عبر إصغاء عام وتصديق لتحريفات وانتقائية خطب قادة الحملة، ومن ورائهم «نجوم ونجمات» التطبيل للتغفيل. ولست شخصياً ممن يستطيعون الاكتفاء بهز الرؤوس مع النغمة المنومة.
ظل موقفي أن نصائحي خالصة لوجه الله، لا مستظلة بشعارات تستغل اسمه. وأن كلمتي مثلي حرة أبية، لا دمية أراجوز يتحكم في زمامها أحد.
* * *
وبعدها اتسع أفق كلمتي وطلبات استكتابي في صحف الوطن وخارجه خليجياً وعربياً، وطلب مقابلات شخصية في الفضائيات العربية والأجنبية.
وظللت، والحمد لله، الطائر المغرد بما تملي بصيرة العلم الواضح معتمدة على ما أومن به من نعم وآلاء الله، واحتياجات الإنسان وحقوقه؛ مقاومة باستعداد متأصل ضغوط ونداءات الانضمام إلى جوقات التخدير والاستنفار.
* * *
الآن بعد العديد من مناسبات التكريم، أتذكر التصعيد البذيء ضد كل مثقف قادر على التعبير خارج الضغوط. وأحمد الله: أن هناك من يرون ويعبرون عن رأي آخر يصد التجهيل، ويحمي وجهة الوطن، ويثقف المجتمع لوجهة تأمين مستقبل الدنيا والآخرة؛ وأن هناك من يجلونهم ويقدرون ثباتهم.
* * *
أتذكر شعوري برهبة ومسؤولية التعيين في مجلس الشورى..
وأشكر من شرّف صمودنا بالاحترام، ومن اختارنا للتكليف والتكريم ، وأدعو له ولنا بالتوفيق والمزيد من فرحة الإنجاز والتقدير.
* * *
أتذكر: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى}؛ وأحس كرامة الرضا.
وأشكر الله على مشيئته، فهو في البداية والنهاية من كللني وألهمني التمسك بكرامة احترام الكلمة الصادقة لوجهه الكريم.