جاء في كتاب سحر البلاغة وسر البراعة لأبي منصور الثعالبي رحمه الله، تحت باب في البخل، البخيل: سائله محروم، وماله مكتوم، لا يجيز إنفاقه ولا يحل خناقه، خبره كالأروى يسمع بها ولا ترى، خبزه في حالق، وأدمه في شاهق، غناه فقر، ومطبخه قفر، يملأ بطنه والجار جائع، ويحفظ ماله والعرض ضائع، وقد أطاع سلطان البخل بجهده، وانخرط كيف شاء في سلكه، فلان لا يبض حجره، ولا يثمر شجره، ما هو إلا حجر لا يروي، وزند لا يوري، فلان لا يحلب إلا من ضرع بكي، ولا يسقي إلا من أنضب ركي، قد جعل ميزانه وكيله، وأسنانه أكيله وكيسه أنيسه ورغيفه أليفه ويمينه أمينه ودرهمه شقيقه، ومفتاحه رفيقه وخاتمه خادمه وصناديقه صديقة.
وورد في كتاب الطب الروحاني لابن الجوزي رحمه الله تحت باب في دفع البخل: اعلم أن مجرد الإمساك للمال لا يسمى بخلاً لأن الإنسان قد يمسك فاضل المال لحاجته، ولحوادث دهره ولأجل عياله وأقاربه، وهذا كله من باب الحزم، فلا يذم وقد يجد قوم قوة في النفس بحفظ المال، وإنما يقع اسم البخل على مانع الحق الواجب. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((وأي داء أدوأ من البخل)) أخرجه الحاكم في المستدرك.
قال: أبو محمد الرامهرمزي رحمه الله: إنما يشبه البخل بالداء لأنه يفسد الخلق ويدفع عن السؤدد ويكسب سوء الثناء والمذمة، كما أن الداء يضعف الجسم ويبطل الشهوة ويغير اللون.
وقد قالت الحكماء: الكريم حر لأنه يملك ماله والبخيل لا يستحق اسم الحرية لأن ماله يملكه، وعلاج البخل أن يتفكر ويجعل شكر المنعم مواساة الإخوان، ويتيقن أنه سيترك ما في يديه ذميماً، فليخرج منه قبل أن يخرج عنه.
وقال الثعالبي رحمه الله في باب ((الخسة مع الثروة وجمع المال وترك التطول)): فلان سمين المال، مهزول النوال، عظيم الرواق، صغير الخلاق، يصون فلسه ويبذل نفسه، الدهر يرفعه ونفسه تضعه، ثروته في الثرياء وهمه في الثرى، لا يكدح إلا لتطييب الطعم وتنعيم الجسم ثم يرى المكارم من المحارم، قد وفر همه على مطعم يجوده، وملبس يجدده ومرقد يمهده وبنيان يشيده ثم ينجده، فما يشد للمكارم رحلاً، ولا يحمل للفضل كلاً، همه أن يتشبع ويتضلع، ويكتسي ويتمشقع، ويتجلل ويتبرقع، ويتربع ويترفع، وقصاراه أن ينصب تخته ويؤطي استه دسته، وحسبه من الشرف أن يصهرج أرضها ويزبرج بعضها، ويكفيه من الكرم أن تعدوا الحاشية أمامه، وتحمل الغاشية قدامه، ويجزيه من الفضل ألفاظ فقاعية، وثياب مشقاعية، يلبسها ملوماً ويحشوها لؤماً، ما اتسعت دورهم إلا ضاقت صدورهم، ولا أوقدت نارهم إلا انطفأ نورهم، ولا همجلت عتاقهم إلا قطفت أخلاقهم، ولا صلحت أحوالهم، إلا فسدت أفعالهم، ولا كثر مالهم، إلا قل جمالهم.
وقال ابن الجوزي رحمه الله في باب النهي عن التبذير: التبذير مما يأمر به الهوى وينهى عنه العقل وأحسن الأدب في هذا الباب تأديب الحق سبحانه وتعالى حين قال: {وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً} [الإسراء: 26].
واعلم أن الإنسان قد يعطى رزق شهر في يوم، فإذا بذر فيه بقي شهراً يعاني البلاء، وإذا دبر فيه عاش شهراً طيب العيش.
وعلاج مرض التبذير النظر في العواقب والحذر مما يجوز كونه من الحاجة إلى الناس والفقر، فذلك يكف كف التبذير.
وقال أبو بكر الرازي رحمه الله في كتابه الطب الروحاني تحت فصل في الاكتساب والإنفاق: إن العقل الذي خصصنا به وفضلنا على سائر الحيوان أدى بنا إلى حسن المعاش، وارتفاق بعضنا ببعض فإنا قلَّ ما نرى البهائم يرتفق بعضها ببعض، ونرى أكثر حسن عيشنا من التعاون والارتفاق لبعضنا من بعض فإن الرجل الواحد منا طاعم كاس مستكن آمن وإنما يزاول من هذه الأمور واحداً فقط، لأنه إن كان حراثاً لم يمكنه أن يكون بناءً، وإن كان بناءً لم يمكنه أن يكون حائكاً، وإن كان حائكاً لم يمكنه أن يكون محارباً.
وبالجملة، فإنه لما اجتمع الناس متعاونين متعاضدين اقتسموا وجوه المساعي العائدة على جميعهم، فسعى كل واحد منهم في واحد فيها حتى حصلها وأكملها، فصار لذلك كل واحد منهم خادماً ومخدوماً وساعياً لغيره ومسعياً له فطابت للكل بذلك المعيشة وتمت على الكل بذلك النعمة. فالقصد في الاكتساب إذن، هو المقدار الموازي لمقدار الإنفاق، وزيادة فضله تقتني وتدخر للنوائب والحوادث المانعة من الاكتساب، فإنه يكون حينئذ المكتسب قد اعتاض كداً بكد وخدمة بخدمة، ومقدار الإنفاق ينبغي أن يكون أقل من مقدار الاكتساب.
وفي السياق نفسه يقول ابن الجوزي رحمه الله: ينبغي للعاقل أن يكتسب أكثر مما يحتاج إليه، ويقتني ما يعلم أنه لو حدث به حادثة كان في المقتنى عوض عما ذهب، ولو عرض له مانع من الاكتساب قام المقتنى بحاجته بقية عمره، ولو جاءه أولاد واحتاج إلى فضل زوجة وخادم واحتاج ولده إلى مثل ذلك، كان في كسبه ما يكفيه، وفي الجملة ينبغي أن تكون النفقة أقل من الكسب، ليقتني من الفضل ما يكون معداً لحادثة لا تؤمن وهذا ما يأمر به العقل الناظر في العواقب، ولا يبالي به الهوى الناظر إلى الحالة الحاضرة.
لذا، ورد ((من فقه الرجل بعد النظر في معيشته)).