تُعرف أسرة الفياض في مدينة عنيزة (بالريس) بسبب تعاقب أبنائها على رئاسة الجامع الكبير والأذان فيه منذ أكثر من 200 سنة، منذ عام 1196هـ، حيث تولى الأذان منهم ستة أجيال متعاقبة، وهم كالتالي: محمد بن سليمان الفياض ثم ابنه عبد الله بن محمد الفياض، ثم خلفه أخوه سليمان بن محمد، ثم جاء بعده محمد بن سليمان (ابن السابق) ثم خلفه ابنه إبراهيم بن محمد الفياض (الذي نتحدث عنه).. ثم خلفه حفيده عبد الرحمن بن محمد بن إبراهيم بن محمد الفياض.. لذا فهم رؤساء المؤذنين بعنيزة.. وقد اختفى اسم الأسرة القديم، وصاروا يعرفون بالريس.
والذي نحن بصدد الحديث عنه هو المؤذن الخامس إبراهيم بن محمد بن سليمان الفياض (الريس) من بني خالد، ولد سنة 1318هـ، كان مؤذن الجامع الكبير بعنيزة (جامع ابن عثيمين) حالياً.
بدأ الأذان متدرباً وعمره 13 سنة في حياة والده سنة 1331هـ، واستلم الأذان رسمياً وعمره 18 سنة.
وكان في بداية استلامه هذه المهمة الجليلة يصعد (المنارة) مئذنة المسجد الحلزونية خمس مرات كل يوم، ليصدح بالأذان لكل وقت!
وتُعد هذه المئذنة من أقدم المنارات في مساجد المملكة، حيث يعود تاريخ بنائها إلى عام 1307هـ، ولا توجد منارة بطولها مبنية من الطين الخالص، فهي مكونة من خمسة أدوار، وارتفاعها يبلغ 23 متراً، وعدد درجاتها (76 درجة)، وقد قام ببناء هذه المنارة محمد بن صالح الدليقان (ابن صويلح).
واستمر الشيخ إبراهيم بارتقاء هذه المنارة حتى عام 1372هـ حيث رفع الأذان لأول مرة من مكبر الصوت بعد إدخال الكهرباء إلى المسجد بماكينة خاصة تبرع بها الوزير عبد الله بن سليمان الحمدان.
وفي عام 1368هـ تصدعت المنارة بسبب الأمطار الغزيرة، إلا أنها لم ترمم إلا في عام 1382هـ عندما طلب الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله - من عبد العزيز البادي - رحمه الله - الشاعر المعروف بناء وترميم المنارة بعد التصدع.
ولا تزال مئذنة الجامع الكبير (جامع الشيخ ابن عثيمين) تحمل أصالة الماضي وعراقة التاريخ رغم التجديد الذي طرأ على الجامع، حيث أعيد بناؤه على نفقة الملك خالد بن عبد العزيز - رحمه الله - عام 1406هـ، وظلت المنارة الطينية في مكانها - بناءً على رغبة أهالي عنيزة بعدم هدمها - تشارك المآذن الجديدة في رفع صوت الحق منها.
عاصر الشيخ الريس أربعةً من أئمة الجامع وخطبائه، وهم: الشيخ صالح بن عثمان القاضي، والشيخ عبد الله بن محمد المانع، والشيخ عبد الرحمن بن ناصر بن سعدي، والشيخ محمد الصالح العثيمين - رحمهم الله جميعاً -.
قضى الشيخ إبراهيم سنوات طويلة جداً بالأذان، حيث استمر لمدة ثمانين عاماً (1331- 1411)، وهي أطول فترة قضاها مؤذن بهذه المهمة العظيمة في عنيزة وفي المملكة!.. وقال الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله - عن الشيخ إبراهيم الريس (لا أعلم أحداً من السلف ولا من الخلف مكث هذه المدة!).
كان الشيخ إبراهيم يعتمد في التوقيت للأذان على ساعة سويسرية الصنع ورثها عن أبيه, وأبوه ورثها عن جده, ولا تزال موجودة لدى أبنائه.
يذكر ابنه الأستاذ محمد: من المواقف التي عشناها مع الوالد - رحمه الله - أننا كنا جالسين عنده ذات يوم بعد صلاة العصر نستمع إلى برنامج عبد الله بن خميس الشهير (من القائل؟), حيث سأله أحد المستمعين عن أعظم بيت شعرٍ قالته العرب؟! فأجاب ابن خميس: لا أعلم أعظم بيت قالته العرب! ولكنهم قالوا في الشجاعة كذا, وفي الكرم كذا, وفي المدح كذا, وفي الهجاء كذا، وبدأ يردد أبيات الشعر المشهورة في عدد من أغراض الشعر.. وكان الوالد متمدداً على سريره يستمع إلى البرنامج, وحين سمع إجابة ابن خميس، نهض واعتدل في جلسته وضرب بيده اليمنى طرف السرير، وقال: أنا أعرف أعظم بيت قالته العرب! فسألناه: ما هو؟ قال: قول لبيد بن ربيعة في الجاهلية: (ألا كل شيء ما خلا الله باطل)! فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: أصدق كلمة قالتها العرب قول لبيد:
ألا كلُّ شيءٍ ما خلا الله باطل
وكلُّ نعيمٍ لا محالةَ زائلُ
كان إبراهيم الريس - رحمه الله - شخصية استثنائية نادرة حقاً, فقد جعل مهمته في الحياة الأذانَ وعبادةَ الله وطاعتَه.. كان يخالط العلماء والأئمة في الجامع ويستمع إليهم وينتظم في الدروس وحلقات العلم والدين حتى أصبح لديه إلمامٌ تام بالفقه وشؤون العقيدة, وكان يجلس لقراءة القرآن يومياً في الجامع من بعد صلاة الظهر إلى صلاة العصر.
توفي - رحمه الله - يوم الأربعاء 28-2-1411هـ الموافق 19-9-1990م، وصلى عليه جمعٌ غفير من أهل عنيزة في نفس الجامع الذي يؤذن فيه، ودفن في مقبرة الشهوانية، وصادف في ذلك اليوم اجتماع هيئة كبار العلماء فصلوا عليه صلاة الغائب.
التقى مفتى عام المملكة الشيخ عبد العزيز آل الشيخ بالأستاذ محمد الريس ابن الشيخ إبراهيم في مناسبة فتحدثا عنه وكان من ضمن ما قاله المفتي: (إنَّ والدَك هو رئيس مؤذني نجد).
رحمه الله رحمة واسعة وجزاه الله خير الجزاء، فالمؤذنون أطول الناس أعناقاً يوم القيامة، فما بالك بمن استمر بالأذانِ ثمانين عاماً!