أثناء حديث مع زميل سوداني من أصول انحدرت من جزيرة العرب إلى تلك البقاع، تشعّب إلى إفادته بأنه في بعض مناطق السودان - لاسيما المجاورة لدول إفريقية - تقطن قبائل من ذوي البشرة السمراء جداً عرف عنهم تماسكهم القبلي ووحدتهم الاجتماعية المترابطة التي يجاهدون للحفاظ عليها من التمدد والتفكك والتناثر بين القبائل الأخرى المجاورة، ما يعني اعتزازهم بجذورهم وقيمهم وعاداتهم، وأضاف إنه لم يعهد منهم التعنصر للعرق أو التعالي والاعتداء على الغير، هنا يجد الإنسان قيمته ومكانته متى ما تمسك بالقيم التي ترفع هامته وتعلي شأنه بين الناس، ولم يكن لون البشرة في هذه الحالة معياراً للتقييم ووزن القبيلة بين الأمم، في المقابل تتنابز أصوات في كل بقاع الأرض متخذة اللون وصورة الخلقة التي خلق الله بها عباده ذريعة للتندر والتفرقة بين موازين وتقدير الآخرين في نظرهم، وأجد أن المثال السابق ينطبق على قبائل شتى في كافة القارات مما لا زالت تعتني بشأن القبيلة ولم يمازج شئونها الحياتية ما يمحي هذه الاعتبارات التي لا زالت قائمة وبنسب مختلفة، إذن الأمر لا يقتصر على قارة أو عرق أو منطقة بعينها، فكل البشر في الأصل ينحدرون من قبائل وأصول وجذور، وكل يحق له الاعتناء بجذوره وفروعه، غير أن افتقار هذه العناية لما يساندها من القيم الإنسانية النبيلة يفقدها المعنى الحقيقي للاعتزاز، بما معناه أن التمسك بالاسم المجرد وإغفال القيم وشيم ما تعنيه القبيلة يجعل الأمر مجرد تقليد مفرغ لم يعمل به الأجداد والأصول المعتبرون للقبيلة، فهم إنما يعنون في انتمائهم واعتزازهم بقبيلتهم هذه القيم والشمائل والخصال الحميدة التي توارثوها من أصول أبعد، وهي المكوّن والسور المنيع الذي من أجله كانت القبيلة تسعى للحفاظ على نقاوة دمها من التخالط بدماء قد لا تراعي القيم المرعية في المحيط القبلي المعاش، والصورة كما تبدو مع تغير وتطور مجمل النسق الحياتي لكافة الشعوب والأمم قد اعتراها نوع من التمدد في مفاهيم كانت سائدة، واسترخت مع استرخاء النمط المتحضر للمعيشة والحياة بصورها المتعددة، وزادت هوامش هذا التغافل عن تلك المفاهيم مع تصاعد الثورات الثقافية والصناعية والتقنية التي استحوذت على الحيّز الأكبر من مفاهيم وأفكار المجتمعات البشرية، ومع تسارع وتيرة المعيشة والركض وراء متطلبات الأفراد والأسر ضاق هامش الميل للعنصر القبلي وإن لم يندثر، وهو أمر طبيعي إن لم توبه مشاعر الأفضلية على الغير، كأن يرى فرع أنه أجدر بالأولوية من الفرع الآخر، أو أن قبيلته أفضل من تلك، فهنا تكون رائحة التفاخر والتنابز غير المرغوب الذي قد يقود إلى سلبيات تعكر صفو المجتمعات وتعيق تقدمها وتحضرها ولحاقها بالمجتمعات الناهضة، ومع أن الاعتزاز العقلاني المتزن بالقبيلة أمر مشروع، إلاّ أن العصر عصر التفاخر بالمنجزات الحضارية التي تنعش وتسعد الشعوب، وكلما حصر الإنسان نفسه في قوالب جامدة من الفئوية والطائفية والشعوبية والمناطقية فإنه يحكم على نفسه وعلى المحيطين المتأثرين بنظرته للحياة بالسير بعكس منطق العصر الحديث الذي تتسابق فيه الأمم الحية نحو مزيد من القيم الراقية ومنابع السعادة، ونحن المسلمون أقرب لذلك.