عندما يصف مفتي عام المملكة - الشيخ - عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ، قرار خادم الحرمين الشريفين - الملك - عبدالله بن عبدالعزيز، والذي جرّم المشاركة بالقتال في الخارج، أو الانخراط بالأفكار غير الصائبة، بأنه: «قرار شجاع، ويهدف إلى حماية المجتمع»، فهو يبرز منهج العلماء الرشيد في التوفيق بين الفقه، وفهم الواقع؛ من أجل أن تُبنى عليه الأحكام الصحيحة؛ مراعاة للمصلحة، أو مجافاة للمفسدة، باعتباره يندرج في وعاء تحقيق المناط، سواء أطلقنا عليه لفظ: «السياسة الشرعية»، أو «الاستصلاح»، أو «الاستحسان». ففقه الواقع مع مراعاة واقع متقلب، ومتوقع مترقب، ناشئ عن تحقيق المناط، الدائر مع المصالح، والمفاسد، شريطة ألا يخل بمصلحة شرعية معتبرة، أو يؤدي إلى مفسدة أعظم مطلوبة الدرء شرعاً. وعندئذ - لا يحق للعالم الشرعي، أن يصدر فتوى مجردة عن واقعه الذي يعيشه؛ لتحقيق ما استطاع من متطلبات، بل والعمل على حفظ الإمكانات، والمقدرات، والكليات.
عند التشخيص الدقيق، فإن معرفة الأحكام الفقهية، أمر يسير في التحصيل، بخلاف تطبيقها على الوقائع، فإنه أمر عسير. والمعادلة تقتضي: «قيام الأسباب، وانتفاء الموانع». وتلك مهمة لا يمارسها إلا الراسخون من أهل العلم، تحريماً وتحليلاً، إضافة إلى التصرفات الولائية، التي يمارسها الحاكم، اجتهادا وتنزيلاً.
إن الاعتناء بفقه الواقع، يتطلب الاعتناء بفقه أحوال الناس، والعوامل المؤثرة فيه، والعمل على إصلاحه. وهذا ما أكد عليه سماحة المفتي، بأن: «الجهاد أنواع، جهاد بالمال، وهو بذل المال للمجاهدين، وإعانتهم. وجهاد باللسان، وهو دفع الباطل، ودحضه. وجهاد باليد عند الحاجة إليه، والجهاد باليد أمر شرعي متبقٍ، لكنه يحتاج إلى ضوابط، وإلى منهجية، وفهم للواقع؛ لأن هذا الجهاد عمل صالح، وهو سنام الإسلام، لكن ما هي الظروف، والأحوال التي تهيئ هذا الشيء؛ لأن الإنسان إذا انطلق مجاهداً، ينظر إلى أي شيء يجاهد، ومع من يجاهد، وتحت راية من يجاهد». وفي تقديري، أن حديثه - هذا - عن فقه المآلات، هو موازنة بين مصلحتين، إحداهما أرجح، إحداهما مستقبلية، والأخرى حاضرة، وموازنة بين مفسدتين، إحداهما مستقبلية، والأخرى حاضرة.
إن الجهل بفقه الواقع، أحد أسباب تأخر الأمة، وذلك باتخاذ القرارات الخاطئة المبنية على تصورات غير سليمة، أفقدتنا الانسجام الضروري بين الضمير الديني، والأخلاقي، والواقع الإنساني. ولذا لا غرابة، ونحن نعيش أحداثاً جسيمة في عالمنا الإسلامي، ليست باعتبار تأثيرها علينا - فقط -، بل على العالم - أجمعه - أن نشهد من يضع الأحكام الشرعية، والفتاوى الجاهزة في غير موضعها، أو أن يطلقها دون تقييد، وهذا ما أفضى - مع الأسف - إلى فوات مصالح مرجوة، والولوج في مفاسد محققة، بسبب الوقوع في دائرة الجدلية بين الواقع، والمتوقع - بتقلباته وغلباته - وبين الدليل الشرعي بشقيه الكلي والجزئي. الأمر الذي يجعلنا نحذر كل من يقحم نفسه في واقع لا يعرفه، وعن مكان لم يعايشه، من إطلاق الأحكام العامة، دون مراعاة الواقع المتقلب، والمتوقع المترقب؛ حتى لا تُطلق التصورات الذهنية أحكاماً؛ نتيجة معلومات ناقصة، أو مشوهة، أو مغلوطة، أو بسبب غلبة العواطف الجياشة في مثل هذه الظروف التي تعيشها الأمة الإسلامية اليوم.