( 1 )
يخطئ الكثير منا عندما يعتقد أنّ الغربة هي غربة اللهجة والدين والوطن فقط، فهناك الكثير من أصحاب المناصب العليا والقيادية في بلادنا يعيشون غربة قد تكون أشدُّ وقعاً وإيلاماً على النفس من غربة الوطن وهي الغربة الروحية.. وخاصة الذين تولّوا مناصب قيادية بعيداً عن أُسرهم وممن تجاوزت أعمارهم سن الأربعين، فهؤلاء يعيشون في عزلة تامة وسط بيئتهم ومجتمعهم.. فلا امتيازات الوظيفة، ولا بريق المنصب، ولا المكانة الاجتماعية قادرة على سد الفراغ الذي نتج عن افتقادهم للجو الأُسري الذي اعتادوا عليه.
( 2 )
الغربة والشقاء وجهان لعملة واحدة وهما متلازمان، ويبدو أنّ قدَر أصحاب المناصب العليا في بلادنا هو أن يعيشوا غرباء مغتربين في حياتهم، فغربة ما بعد الأربعين دائماً ما تكون مزعجة ومؤلمة بنفس الوقت وعلى حساب الصحة والأُسرة، وفي الحقيقة أشفق على هؤلاء المغتربين، فالعمر ينقص ولا يزيد، والسعيد هو من يقضى وقته بين أُسرته وأحبته قبل فوات الأوان وضياع العمر.
( 3 )
فاتورة الغربة غالية وثمنها معروف .. الوحدة.. والمشقة.. والتعب.. وفراق الأحبة.. والإنسان بعد هذه السن أحوج ما يكون إلى الاستقرار والعيش وسط أُسرته أكثر من أي وقت مضى وتحديداً في هذه المرحلة المهمة من حياته، فالأُسرة هي مصدر الأمان وراحة البال، فالمنصب زائل والمال وحدة لا يجلب السعادة.
( 4 )
يقول الشاعر يحيَى توفيق في قصيدته «غربة»:
مَنْ أَبُوحُ بِآلاَمِي وَأَحْزَانِي
وَأَيْنَ أَهْرُبُ مِنْ لَيْلِي وَأَشْجَانِي
إِذَا شَكَوْتُ فَكُلُّ النَّاسِ يَعْذِلُنِي
وَإِنْ صَبَرْتُ فَصَبْرُ الْمُرْهَقِ الوَانِي
كَمْ أَزْرَعُ الوُدَّ فِي أَفْيَاءَ مُعْشِبَةٍ
فَأَحْصُدُ الْحِقْدَ فِي صَحْرَاءِ حِرْمَانِي
لَيْلِي طَوِيلٌ وَأَفْكَارِي تُحَيِّرُنِي
وَتَسْكُبُ اليَأْسَ فِي قَلْبِي وَوِجْدَانِي
إِنَّ الغَرِيبَ غَرِيبُ الرُّوحِ فِي وَطَنٍ
يَلْقَى الْهُمُومَ بِقَلْبٍ حَائِرٍ عَانِي
يَا رَبِّ أَشْكُو إِلَيْكَ اليَوْمَ أَفْئِدَةً
تَقْسُو عَلَيَّ وَلاَ أَشْكُو لإِنْسَانِ