كان حاج أحمد حسين وما زال يعمل سائقاً لما يقارب الخمسين عاماً. جاب بشاحنته “الفورد” السودان طولاً وعرضاً، شمالاً وجنوبا، شرقا وغربا، واستقر به المقام أخيراً سائقاً محلياً داخل قريته الوادعة الرابضة على ضفاف النيل الخالد. تعلم من مهنته الصبر وقوة الاحتمال والشجاعة والحكمة، وصادق خلال هذه السنين الطويلة كثيرا من الناس وتعلم منهم أكثر.
كان حاج أحمد يقود شاحنته في طريقه إلى مدينة بورتسودان “عروس” البحر الأحمر، ولم ينس تعبئة صندوق الزاد “الزواده” بالخبز الذي تتطلبه الرحلة الطويلة. كلما مر به أحد إخوانه السائقين، سلم عليه، فيرد عليه بأحسن تحية ومن ثم ينادي على صبي الشاحنة “المساعدي” أعطي عمك “شوية” خبز، فيعطيه. تكرر هذا المشهد مع أكثر من سائق ولم يبق إلا القليل من الخبز.
لم تمض لحظات، فيمر أحد السائقين، فيسلم على حاج أحمد، فيرد التحية وينادى على”الصبي” “يا ولد” أعطي عمك قليلا من الخبز، فانزعج الصبي وقال بضيق: “لم يتبق لنا سوى رغيفتين لغدائنا”، فانتهره حاج أحمد وقال: “أعطيهن لعمك”، فرد “الصبي” بزعل “ونحنا نأكل شنو؟” فأجابه حاج أحمد: “الله كريم يا ولدي، اصبر والصبر مفتاح الفرج”.
بينما هما يتجادلان، تمر سيارة، فنزل سائقها وأخذ حاج أحمد بالأحضان ونادي على صبيه “مساعده” يا ولد أعط عمك حاج أحمد من الرغيف الحار دا”. كانت كمية الخبز المعطاة ضعف كمية الخبز التي وزعها حاج أحمد.
فرح حاج أحمد فرحاً شديداً “بالخبز الحار “ الذي عوضه الله به في الحال عن “الخبز البايت”، الذي أنفقه على إخوانه بنية خالصة فكان القبول في الحال. التفت حاج أحمد إلى مساعده وقال: “أها يا ولدي ما قلت ليك الله كريم والصبر مفتاح الفرج”. ضحك “الصبي” مسروراً وقال: “صدقت يا حاج وزعناهو رغيف “بايت” وربنا عوضنا بدله رغيف حار”. فاضت عينا حاج أحمد وأخذ يردد بخشوع قول الحق (وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين).