المقصود بالتعايش هو تفهُّم الفرد، والفئة الاجتماعية أنه يمكن أن يتواجد معه في المجتمع أفراد أو مجموعات مختلفون معه في الرأي، ويختلفون عنه في رؤيتهم في الحياة يتقبّلهم ويحترم رأيهم ويعترف لهم بحقوقهم كاملة. ويشترط في طبيعة هذا التقبُّل ألاّ يكون جبرياً أو بحراسة سلطة ما، وإنما يكون نابعاً من قناعة ايدلوجية بأنّ
الجميع متساوون في الحقوق والواجبات، وأنه ما من أحد يملك الحقيقة كاملة، وأن تتولّد له قناعة بأنّ البديل عن ذلك صراع يضر بمصلحته هو قبل الآخر.
شرط التعايش لم يتوفر بعد في عالمنا الإسلامي والعربي، بل وربما يمكن القول بأنه كان غائباً عن معظم حقبات تاريخه، رغم أنّ الثقافة الإسلامية هي الثقافة السبّاقة الأولى في صياغة أشكال متقدمة من التعايش مع الآخر منذ فجر التاريخ، وربما كان ذلك السبب الرئيس في انتشار الإسلام بشكل سريع في أجزاء كثيرة ومتباعدة من العالم. غير أنّ الصراعات السياسية المختلفة والمتتابعة فرغت الثقافة الإسلامية من مفاهيم التسامح والتعايش مع الآخر، واستبدلتها تدريجياً بمفاهيم تدور في مجملها حول تضخيم ذات الحاكم، والانفراد بالسلطة، وسحق الآخر المختلف، فجاء التاريخ الإسلامي سلسلة متتابعة من التسلُّط والتسلُّط المغاير، والانتقام والانتقام المقابل، ووظف العرق، والمذهب والطائفة كإديولوجيات تبريرية كرّستها نخب فكرية ادعت لنفسها ملك الحقيقة كاملة.
وما نشاهده اليوم حولنا من احتراب وحشي ما هو إلاّ استمرار لهذه الإيديولوجيات التي تتشابه في شكلها وأنماطها وتختلف فقط في مضمونها وتفاصيلها وظروفها. وقد وجدت الإشكالية ذاتها لدى شعوب أخرى كثيرة، احتربت لقرون طويلة لأسباب مشابهة، قبل أن تتوصل لصيغ ناضجة للتعايش السّلمي يحترمها الجميع مهما اختلفوا في التوجهات، وتم تحييد الأسباب العرقية والمذهبية والسياسة التي تستحضر أسباب التطاحن والاقتتال بتشريعات تحدد أطر سلمية لتعايش الاختلافات، وكذلك عبر تشريع فصل الدولة عن السُّلطة. فالدولة هي الشكل الدائم التي يوصفها الدستور والتشريع، بينما السُّلطة مؤقتة تقررها الانتخابات ولها حق التنفيذ. والسُّلطة مجزئة لسلطات ثلاث: تنفيذية، وتشريعية، وقضائية حتى لا يتاح لسلطة بعينها تغيير شكل الدولة، وحتى لا تنفرد أيٌّ منها بصلاحيات الدولة كاملة.
ولو نظرنا لحالات ما أطلق عليه الربيع العربي، وهي حالات من الاحتراب الإيديولوجي الساعي للخلاص من الانفراد بالدولة والسُّلطة معاً وبالتغيير، أملاً للوصول لحالة التعايش المطلوب الموجودة في الدول التي توصف بالديمقراطية التي تستقر فيها الدولة وتتغير فيها باستمرار السُّلطة؛ وهي دول مختلفة فيما بينها من حيث التطبيقات ولكنها تتشابه في حالات تدوير السُّلطة عبر الاقتراع. ورغم أنّ الشعوب في ما يوصف بالدول الديمقراطية تعاني أحياناً كغيرها من التهميش، والكذب، والفساد، والوعود السياسية الفارغة، إلاّ أنها في مجملها تتفق على الحفاظ على صيغة التعايش التي تبعد الدولة عن السُّلطة وتحفظ الحد الأدنى من التعايش بين الاتجاهات الإيدلوجية المختلفة، تجنباً للانجراف في العنف والاحتراب. أما دول الربيع العربي فقد اصطدمت برغبة جامعة لدى القوى المؤثرة فيها، القوى المنظمة إيديلوجياً بشكل أكثر تماسكًا، في الإبقاء على الوضع السابق لما قبل الربيع من الجمع بين الدولة والسُّلطة، ولذا فنحن أمام أكثر من نموذج فيما يبدو لأول وهلة نموذجاً واحداً جامعاً أطلقنا عليه عبارة «الربيع العربي» وهي استعارة لغوية تصف أكثر مواسم السنة اعتدالاً وجمالاً، ولم يكن اللجوء لمثل هذه الاستعارة إلا لافتقارنا للتوصيف السياسي الحقيقي والواقعي لهذه الحالة.
الشعوب العربية التي حصلت فيها حالات الربيع تشترك في كونها جميعاً شعوباً أغلبية سكانها من المسلمين، وهي فيما عدا اليمن متجانسة من حيث التواجد المذهبي. وقد رُبطت الأخلاق، والقيم الاجتماعية والتاريخية في هذه المجتمعات بتعاليم مستمدة من الإسلام، ولذا لم يك مستغرباً أن تفوز الأحزاب الإسلامية بالأغلبية بالانتخابات فور إجرائها، ولكنها في كافة الأحوال لم تفز بنسب أغلبية كاسحة، مما يؤشر على وجود قطاعات اجتماعية أخرى واسعة لديها رؤية مختلفة للحياة وربما للإسلام ذاته ودوره في الحياة، ويمكن وصف هذه الاتجاهات بأنها ذات اتجاهات مدنية. ويمكن تعميم حالة الاختلاف المدني الديني على كافة الأقطار العربية، بل ويمكن الذهاب أبعد من ذلك للقول بأنها امتداد للصراع الفكري الجدلي التاريخي الدائم بين التقليد والتجديد.
والنموذجان الأبرز فيما نحن بصدده هما مصر وتونس، بينما الحالة ذاتها تنطبق بشكل أقل على ليبيا، واليمن وحتى سوريا، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار التدخل المذهبي الإيراني المحافظ فيها. فما حصل في مصر على سبيل المثال هو أن الإخوان المسلمين، الحزب الأكثر تنظيماً سياسياً وتاريخياً، استطاعوا الاستفادة من فراغ السُّلطة عبر تنحي الحكم السابق واستعجال الشعب لانتخابات أجريت قبل صياغة شكل الدولة، فسلمتهم الانتخابات السُّلطة قبل توفر الشروط الدستورية لفصل الدولة عن السُّلطة. وكان الخطأ الكارثي الكبير الذي ارتكبه الإخوان أنفسهم، إثر توفر الظروف لهم لصياغة الدستور وتشكيل الدولة، يتمحور حول محاولتهم تشكيل الدولة بشكل يضمن لهم مستقبلاً احتكار السُّلطة، أي خلق امتداد للسُّلطة السابقة بطابع إسلامي. وهذا ما جعل جميع القوى الأخرى ترفض ذلك بما في ذلك الجيش الذي استشعر الخطر من ذلك، فكان ما كان من طلب الجيش من الإخوان التخلي عن محاولة تشكيل الدولة بما يناسب رؤيتهم فحاول الإخوان التسويف، والمناورة، فانقض الجيش على السُّلطة بمباركة القوى المدنية الأخرى بحجة إعادة النظر في دستور جديد للدولة يحفظ حق تدوير السُّلطة ويحفظ له دوره في الوصاية على ذلك.
حالة مشابهة وجدت في تونس، حيث انتصر الإخوان وتمت صياغة دستور، ولكن بمشاركة متساوية من كافة الأطراف، واتضح فيما بعد انفراد الحزب بالسُّلطة بشكل يؤثر على الدولة فتكاتفت القوى السياسية الأخرى ضدهم فتنازلوا عن السُّلطة طوعاً أملاً في الحفاظ على صيغة توافقية تحفظ لهم مكاسب سياسية حقيقة في التواجد على الساحة مستقبلاً كغيرهم من الأحزاب. ومن هنا يتضح أنّ التجربة السياسية التونسية على رغم قصرها كانت أنضج من التجربة المصرية، وأن حزب الإخوان المسلمين في تونس يملك رؤية سياسية أعمق وأكثر براجماتية من نظيره المصري، فتم التوافق على تنازلهم عن السُّلطة مؤقتاً والسماح بوقت كاف للصياغة لدستور يحدد شكلاً ناضجاً للدولة يسمح بفصلها بشكل توافقي عن السُّلطة. كيف ذلك؟
غيّر الإخوان في مصر من شكل لجنة صياغة الدستور، وقدموا دستوراً ذا صياغة إسلامية تتوافق مع التوجُّه الديني للإخوان والأحزاب الحليفة لهم فقط. فالدستوران، المصري والتونسي، يشتركان في النص على أنّ الدين الإسلامي هو الدين الرسمي للدولة، ولكن في الدستور المصري الإخواني نص الدستور على أنّ الشريعة هي المصدر الوحيد للتشريع، وأنّ الأسرة بشكلها الإسلامي الذي يوصفه الأزهر هي أساس المجتمع، وأنّ الأزهر هو السُّلطة الأخلاقية في المجتمع مع الاحتفاظ للأقليات الدينية الأخرى بحقوقها، وهنا لم يكن في الدستور مجال لأي تغير مجتمعي مستقبلي من منظور مدني غير ديني. بينما نص الدستور التونسي على أنّ الشريعة الإسلامية هي أحد مصادر التشريع الإسلامي، أي أنّ هناك ما يكفل لحق التشريع من مصادر مدنية في المستقبل. ووافق الإخوان في تونس على هذه الصيغة التوافقية فبقوا جزءاً من المشهد السياسي المستقبلي لتونس، مع حق الترشح للسُّلطة مستقبلاً في دولة منفتحة على أشكال مختلفة للسُّلطة، بينما أصر إخوان مصر على موقفهم وهددوا باللجوء للقوة فتم إخراجهم من المشهد السياسي المصري باعتبارهم جماعة إرهابية، وتم تغيير الدستور وشكل الدولة تحت أنظار العسكر وحمايتهم، ولذا فمستقبل مصر مرهون بمدى حقيقة الفصل بين الدولة والسُّلطة من جهة، وبين الدولة والجيش من جهة أخرى. ولكن يمكن القول إنّ الربيع العربي لن يكون ربيعاً إلاّ بتنوُّع أزهاره السياسية في مناخ دستوري معتدل ومنفتح على أفق مستقبلي لتداول السُّلطة.