الفكر الجهادي الذي اتضح للعيان مدى تطرفه وخطورته ودمويته في سوريا هو فكرٌ خرج من تحت عباءة ما يُسمى بالصحوة الإسلامية. صحيح أن ليس كل صحوي إرهابي، ولكن لا خلاف على أن كل إرهابي هو صحوي في البداية، مر على ثقافة الصحوة أولاً، ثم تطرف، وغلا، وانتهى إلى أنه انتقل دون أن يعي إلى فكر الخوارج.
ومن يقرأ فكر الخوارج وخطابهم السياسي بتمعن سينتهي إلى أن كل من التحق بهذه الفرقة كان هدفه في البداية (دينيا) بحتاً، يسعى ربما بصدق إلى نصرة الدين، وإعلاء كلمة الله، ويُضحي لتحقيق ذلك بأغلى ما يملكه الإنسان وهي روحه؛ ثم أصبح فكراً سياسياً اتخذ من الدين مطية، ومن التكفير وسيلة لإباحة دم المسلم الذي ينازعه السلطة السياسية.
فكرة التكفير بالمعاصي في ثقافة الخوارج كانت في وجهٍ من أوجهها غاية لتبرير القتال وإباحة الدم، ومن ثم الوصول إلى انتزاع السلطة بالقوة. مبرر الخوارج للتكفير بالمعصية يتكئ على أن إبليس امتنع (فقط) عن السجود لآدم عندما أمره الله فعصى الله، فكان من الكافرين كفر؛ وبالتالي فكل من عصى فهو كافر كفر ملة ومهدور الدم؛ من هنا، جاء اعتبار أن مُرتكب الكبيرة كافر لدى الخوارج القدماء.
أما مبرر خوارج العصر فالامتناع عن تطبيق شرع الله.
أي أن هؤلاء وأسلافهم هدفهم (التكفير) كوسيلة والفوز بالسلطة كغاية أو نتيجة. أما الدوافع فهي سياسية في الماضي وفي الحاضر وإن اختلفت البواعث.
وقد تنبه علماء السلف لخطورة التكفير والحكم المتعجل على المسلم بالخروج عن الملة. يقول الشوكاني عن تكفير المسلم: (اعلم أن الحكم على المسلم بخروجه من دين الإسلام، ودخوله في الكفر لا ينبغي لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقدم عليه إلا ببرهان أوضح من شمس النهار). غير أن فكرة الخروج على الإمام أو ولي الأمر المسلم ظلت فكرة ينتهجها كل من رغب في الثورة على الأوضاع الراهنة؛ بل ويمكن القول إن التكفير شرعية من لا شرعية له؛ ولا فرق في نهاية المطاف إذا كان التكفير بحجة كُفر مرتكب الكبيرة أم لأنه لا يُحكّم شريعة الله؛ فالتكفير هنا وهناك هو مجرد ذريعة للوصول إلى السلطة السياسية ليس إلا.
ومن خلال ما يُسمى الربيع العربي عرفنا ويلات (التكفير)، وما يجره على الناس، مسلمين وغير مسلمين، من كوارث وفتن وطوام. فأولئك القاعديون الذين اقتحموا مستشفى في اليمن، وقتلوا كل من واجههم بدم بارد، لم يكونوا ليجرؤوا على هذه الجريمة النكراء لولا أن هناك من سوّغ لهم سوء عملهم من خلال (تكفير) الطوائف الممتنعة، فأعملوا في كل من قابلهم الرصاص، وهم بذلك يبتغون وجه الله في قتل هؤلاء الفجرة الكفرة كما هو منطقهم.
كما أن داعش وجبهة النصرة اللتين لا تتورعان في قتل بعضهم البعض، ناهيك عمن هم خارج دائرة الصراع، يقتلون لأن الآخر في معاييرهم (كافر) حلال الدم، وبالتالي فإن قتله هو بمثابة القُربى إلى الله جل وعلا.
وغني عن القول إن (التكفير) وسيلة لا غاية، يُوظفه الانتهازيون السياسيون لتحقيق أهداف محض سياسية، كما أن تحكيم الشريعة هو حجة الانتهازيين في زماننا، رغم أن الشريعة ليست مُصنفاً محدداً محكماً بين دفتين تتناوله اليوم من الرف، وتُعلن تطبيقه من الغد، وإنما هي آلاف الاجتهادات والتفسيرات والتأويلات والضوابط جميعها بلا استثناء تدخل تحت قبة شرع الله؛ بل وحتى المعايير التي يستخدمها الفقيه في استنباط الحكم الشرعي هي الأخرى ليست قضية متفق عليها، وإنما هي محل اختلاف؛ فكيف والأمر كذلك تصلح لأن تكون سبباً لكفر هذا أو ذاك؟
والتكفير ليس وقفاً على المسلمين فحسب، فقد عرفت كل الديانات تقريباً ظاهرة التكفير والتعذيب والقتل من منطلقات دينية، ولعل (محاكم التفتيش) في الأندلس التي عانى منها المسلمون واليهود على حد سواء كانت مادتها ومبررها ومنطلقها (كفر) الطرف المقابل، وبالتالي جواز قتله وسحقه.
لذلك يمكن القول بأن التكفير والقتل صنوان، أينما وجد الأول وجد الثاني بالضرورة. لذلك لا يمكن أن نجتث الإرهاب أو على الأقل أن نحاصره، إلا إذا حاصرنا أولاً التكفير في أضيق نطاق. هذه حقيقة لا مناص عن مواجهتها.
إلى اللقاء