لقد جرت على الأمة الإسلامية عبر تاريخها أهوال وخطوب تجاوزتها وتخلصت منها بتمسكها بكتاب ربها وسنة نبيها محمد صلى الله عليه وسلم، وما يجري اليوم على أمتنا امتحان وبلاء، ونحن بحاجة إلى عودة صادقة إلى مصدر عزنا وفخرنا ودستور حياتنا، عودة إلى كتاب ربنا وسنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم كي نتغلب على ما يحيط بنا من البلاء وما يعصف ببلاد المسلمين من الرزايا والمحن.
لقد كان الرعيل الأول من هذه الأمة فئة قليلة مستضعفة، يخافون أن يتخطفهم الناس فآواهم ربهم وأيدهم بنصره ورزقهم من الطيبات كما قال سبحانه: {وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}، ولقد كان هذا الإيواء الإلهي من القوي الجبار الغالب القاهر تحقيقاً لوعد الله لهذه الأمة متى آمنت وعملت الصالحات أن يستخلفها في الأرض ويمكن لها دينها الذي ارتضى لها، ويبدل خوفها أمناً متى حققت العبودية لله وحده، كما قال جل وعلا: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}.
لقد كانت الأمة قبل الإسلام قبائل متناحرة متباغضة متعادية فألف الله بين قلوبهم بالإسلام فأصبحوا بنعمة الله إخواناً.
لقد ارتفع الرعيل الأول إلى مستوى متقدم من الرقي لم يسبق له مثيل بفضل تمسكهم بدينهم وأخذهم بهذه الشريعة المباركة: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهَِ}، نتذكر اليوم حال أسلافنا وما هم فيه من النعم التي سعدوا بها، نعمة النصر والتأييد رغم قلة عددهم وعتادهم فأثابهم الله من لدنه فضلاً عظيماً وجعل لهم العزة والمنعة.
نتذكر ذلك ونحن في عصرنا الحاضر نداوي جراح أمتنا ونرى النعم في بعض بلاد المسلمين تتغير وتتبدل وتحل بهم النكبات والويلات فعاد إليهم التعادي والتباغض والتقاتل وبدل الله عزتهم ذلة وقوتهم ضعفاً، {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ}، {ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ}.
إن الالتزام بالدين والنصر عند المسلمين قرينان لا يفترقان: {إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}، لقد قدر الله لنا أن ننعم بالأمن والاستقرار متى استقمنا على شرع الله فلا يهدأ للأمة بال ولا يقر لها قرار إلا بالأمن والأمان، ومتى دب الخوف والنزاع والشقاق في بلد ترى أهله يفرون منه طلباً للأمن على أرواحهم وممتلكاتهم وأعراضهم تاركين أرضهم وديارهم فأرض لا تعرف الأمن هي صحراء قاحلة وإن كانت ذات جنات وارفة الظلال تجري من تحتها الأنهار وأرض تنعم بالأمن وتهدأ فيها النفوس وتطمئن لها القلوب فهي واحة غناء وإن كانت قاحلة جرداء.
ونحن اليوم في هذا العالم المضطرب المتغير أقدر على معرفة قيمة الأمن، ما كادت القرون الثلاثة تنقضي حتى ظهرت الفتن واتسع نطاق المحن.. خلفت بعدهم خلوف تفرقت بهم السبل وأعرضوا عن منهج الرسل، وضلت بهم الأهواء واستحكمت فيهم الآراء. كثرت بينهم الخلافات حتى فرطوا في جنب الله فانفرط عقدهم أمام أعداء الله الذين يسعون لإطفاء نور الله: {وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}، ولا تزال مآسي أمتنا وجراحات إخواننا تنزف في عصر ضاعت فيه المقاييس وانقلبت فيه الموازين حتى تقاعس المسلمون عن حقوقهم وأصيبوا بالذهول والحيرة لهول المصيبة ومن يتابع هموم الأمة وما حل بها من نكبات ويرى ويسمع ما يحاك ضدها من ويلات يصاب بالأسى والحزن وهو يرى تلك الصراعات المتناحرة والمظاهرات الهائجة والخلافات الدائمة على قدم وساق.
لقد حذر المصطفى صلى الله عليه وسلم من تداعي الفتن في آخر الزمان، ووصفها بقطع الليل المظلم لما فيها من الظلم والعدوان، والعالم اليوم وهو يموج في بحر متلاطم من الفتن يقع في هذا المعترك الخطير بعد أن فتحت الفتنة أبوابها، واتجه الناس إلى تحكيم الهوى بدل العقل والحكمة، وقدموا مصالحهم الخاصة على مصالح المسلمين العامة فثارت ثائرتهم دون أن يقدروا حجم المفاسد والأضرار التي ستعيدهم إلى الوراء مئات السنين.
إن سلاح الأمة في بناء مجدها وحضارتها هو سلاح الائتلاف والوحدة وترك الخلاف والفرقة، والتعاون والوفاق وترك النزاع والشقاق، وكلما سادت هذه الفضائل في الأمة حكاماً ومحكومين ساد الأمن والرخاء، والله تعالى يقول: {وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ}.
وإن مما تعاني منه الأمة اليوم فوق تلك الصراعات تلك الشائعات الكاذبة والأخبار الملفقة التي تبثها وسائل الإعلام المختلفة من أجل زعزعة الأمن وإحداث الفوضى والاضطراب في بلاد المسلمين والله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}.
إنه لا حياة للإنسان إلا بحياة قلبه، الحياة الحقيقة حين يعمر قلبه بالإيمان وحين تقوى صلته بربه وخالقه وينقاد لأوامره ويستجيب لندائه، حين يعلم حقيقة الإسلام في وقت الناس فيه أحوج ما يكونون للتمسك بعقيدتهم والدفاع عن دينهم، حين يتهم الإسلام بما ليس فيه، وحين يتخاذل المسلمون عن رد شبه المغرضين وأباطيلهم حين يتسابق الناس إلى الدرهم والدينار فينشغلوا بالدنيا عن الدين حين يدب الضعف في صفوف المسلمين بسبب بعدهم عن دينهم وتقصيرهم في جنب الله هذا أشد ما يخاف على هذه الأمة حين تسعى للدنيا وتنسى الآخرة قد أصابها الغرور بتلك الحضارة الزائفة، حضارة التسلط والاستبداد والاستغراق في الشهوات والملذات تحت مظلة التقنيات والآليات والمادية البحتة مع التنكر لقيم الإسلام وتعاليمه السمحة.
لقد ابتليت عدد من بلدان العالم اليوم بفتن هوجاء أهلكت الحرث والنسل، واكتوت بنارها بعض بلاد المسلمين، وهو ما نسمعه ونشاهده على الساحة، وقد أثبتت تلك الأحداث مدى صدق انتماء الشعوب لأوطانها وحكامها، {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ}، ولا يخفى على عاقل فضل الصبر على الشدائد والمحن ومواجهتها بالعقل والحكمة، فواجب على الأمة أن تراجع واقعها وتعمل على إصلاح حالها، وتبحث عن موطن الخلل في حياتها وتعود إلى صوابها.فالرجوع إلى الحق فضيلة وخير من التمادي في الباطل.
لا يزال الخير بالمسلمين -والحمد لله- وفيهم طائفة لا تزال على الحق منصورة بإذن الله لا يضرهم من خذلهم متمسكين بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم متفقهين في الدين قد أقاموا الحجة وأوضحوا المحجة فعلى كل مسلم أن يوقن بأن كل متكبر دون الله فهو صغير وكل غني إليه هو فقير وكل متعاظم بعده هو حقير، ويوم أن هانت الأمة عند ربها هانت عند أعدائها، وصدق الفاروق رضي الله عنه إذ يقول: نحن قوم أعزنا الله بالإسلام فمن ابتغى العزة من غيره أذله الله.
إن أحوال المسلمين وأوضاع الأمة تبعث على الأسى والقلق وجراحات المسلمين تصيب المسلم بالحسرة والأرق فالله المستعان.
إن مسؤولية صلاح الأمة والخروج بها من مآزقها مسؤولية المسلمين جميعاً في خطى حثيثة وسبل في الحق مضيئة لا تخشى في الله لومة لائم ليتحقق للأمة وما وعدها الله به من النصر والعزة والمنعة. وتلك الجراحات والمعاناة ما هي إلا سحائب صيف ستنقشع بمشيئة الله عن قريب فالنصر للإسلام وأهله والغلبة لهذا الدين ومن الله نستلهم النصر والتمكين، فالعاقبة للمتقين {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}، وقال جل شأنه {وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ}.
إن المسلمين اليوم أحوج ما يكونون إلى ثقتهم بأنفسهم والعمل على تحقيق اعتزازهم بإيمانهم وزرع الأمل المشرق في مستقبل حياتهم على المسلمين أن يستشعروا بواجبهم ومسؤولياتهم تجاه خدمة هذا الدين الذي رضيه الله لنا ديناً وأتم علينا به النعمة، نحن أمة شرفها الله بالإسلام أعزنا الله به بعد ذلة وجمعنا به بعد فرقة وجعلنا فيه إخوة.
إن ما يعانيه العالم الإسلامي اليوم من خلاف وشقاق ومهاترات ومظاهرات ما هو إلا ابتلاء وامتحان، ولا شك أن الخير كل الخير في لزوم أسلوب العقل والحكمة ومنهج الموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن حفظاً للأمن والاستقرار وحقناً لدماء المسلمين، فالعنف لا يولد إلا العنف أو أشر منه، والرفق واللين لا يكون في شيء إلا زانه ولا ينزع من شيء إلا شأنه؛ فيا أمة الإسلام عليكم بالحوار الهادف البناء فإن فتح باب الحوار ساعة خير من الجدال ألف ساعة، فما أحوجنا اليوم إلى مدلول الحوار ومفهومه لفظاً ومعنى منهجاً وسلوكاً كي نعالج مشكلاتنا ونصحح أخطاءنا وتحقق به أهدافنا والحذر الحذر من التعالم والجدال بغير حق وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون.
ما أجمل أن يفكر المسلم في واقع حياته، وما ذا عسى أن يكون عليه مستقبله في خضم هذه الأجواء المعتمة والمسالك المظلمة، مع كثرة الفتن والقلاقل وانقسام بعض الشعوب إلى أحزاب ودويلات بعد أن كانوا وحدة واحدة متماسكة، كيف رضوا بالأمن والأمان بديلاً، كيف رضوا بالفوضى والتشرد بعد أن كانوا لحمة واحدة حتى نزغ الشيطان بينهم فثارت ثائرتهم وخسروا أمنهم وتنغص عيشهم واضطربت أحوالهم فلم يهدأ لهم بال وتذكروا حالهم السابقة وما كانوا عليه من الأمن والأمان والهدوء والاستقرار وتمنى كثير منهم لو أن الأمس يعود، إنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور.