الرياض - خاص بـ«الجزيرة»:
دعا أكاديمي متخصص في علوم الفقه والعقيدة إلى سَن أنظمة تجعل للوقف شخصية اعتبارية مستقلة تحفظ حقوقه، وتسهل إدارة أصوله, وتنمية موارده، وصرف ريعه في مصارفه الشرعية، وفقاً لشروط الواقف، وتحقيقاً لأهداف التنمية الشاملة، مؤكداً أهمية اقتراح حلول عملية، ووضع نماذج وقفية، وقواعد محاسبية وإدارية، ولوائح تنظيمية تشجع على المبادرة إلى الوقف، وتعين الواقفين على ضبط أوقافهم وحسن إدارتها، وضمان استمرارها وتطورها، واختيار أفضل المصارف لريعها.
وشدّد على أهمية تعزيز مبدأ الشراكة والتعاون وتبادل الخبرات بين جميع الجهات المعنية بالأوقاف، والتنسيق بين المحاكم الشرعية ووزارات الأوقاف وهيئاته ومؤسساته الحكومية والأهلية في كل ما يتعلق بالمحافظة على الأوقاف وتطويرها، وتكثيف الملتقيات العلمية والمؤتمرات، وإعداد البرامج الإعلامية، وعقد المحاضرات والندوات للتوعية بأهمية الأوقاف وفضلها وأحكامها، وأثرها في بناء الحضارة والنهضة بالأمة، وكيفية تنظيمها وضبطها، واستعراض الموضوعات والمستجدات المتعلقة بها.
جاء ذلك في التوصيات التي خلص إليها الدكتور عبدالعزيز بن فوزان بن صالح الفوزان عضو مجلس هيئة حقوق الإنسان وأستاذ الفقه المقارن المشارك في المعهد العالي للقضاء من خلال بحث محكم أعده بعنوان (مسؤولية الدولة في حماية الأوقاف).
وطالب بتشجيع البحث العلمي في مجال الأوقاف وإيجاد أوعية معلومات متخصصة لمساعدة الباحثين في هذا المجال، من خلال كراسي البحث في الجامعات، ومراكز الدراسات والبحوث المتخصصة في الأوقاف، وحث الواقفين على المبادرة بتسجيل أوقافهم وتوثيقها رسمياً، حفاظاً عليها من الضياع، وتلافياً لحدوث إشكالات مستقبلية، وتشجيعهم على الاهتمام بالبناء المؤسسي للأوقاف إدارة وتوزيعاً ومحاسبةً، مع الحرص الشديد على اختيار النظار الأكفاء الأمناء، وتطويرهم في هذا المجال.
واقترح إنشاء بنوك خيرية وشركات استثمارية وقفية تختص بإدارة الأصول الوقفية، وتطوير الأوقاف وتنميتها، وتقديم الحلول التمويلية والاستثمارية لها، ودعوة الجهات المختصة للعمل على تفعيلها، وإضافة الشركات الوقفية غير الربحية إلى نظام الشركات، أسوة بعدد الدول التي سبقت إلى ذلك، والترخيص لمراكز استشارية متخصصة في مجال الأوقاف وتسهيل مهامها، للإسهام في تطوير الأوقاف وحمايتها، وتقديم الدراسات والأبحاث المتعلقة بها.
وفي التوصيات ذاتها أكد فضيلته ضرورة النظارة في الوقف، وقال: لا شيء أنفع في النظارة على الأوقاف؛ لكي تحفظ أعيانها، ويتضاعف ريعها، ويصرف في مصارفه الشرعية, من تعيين مجلس نظارة مكون من ثلاثة أشخاص أو أكثر؛ ليكون الرأي جماعياً؛ فرأي الجماعة أكثر سداداً من رأي الفرد، وينبغي أن يُنص في صك النظارة على هؤلاء النظار، وأنه إن حصل لأحدهم عارض يمنعه من الاستمرار، من وفاة أو تخريف أو غيبة بعيدة أو غير ذلك، فإنه يلزم بقية النظار تعيين واحد مكانه بعد أخذ موافقة القاضي، وإصدار صك نظارة جديد، وهذه نصيحة أوجهها لكل من لديه وقف خيري عام أو خاص، وهي نتيجة خبرة ومعاناة في هذا المجال، وينبغي للجهات الوقفية الحكومية والأهلية والقضاة المعنيين بالأوقاف أن يشجعوا على ذلك، وأن يجتهدوا في إعانة الواقف على اختيار الأصلح الأكفأ للنظارة على الأوقاف الخاصة والعامة.
ومن أبرز النتائج التي توصل إليها الباحث من خلال بحثه أن الوقف نوعان: وقف أهلي أو ذري، وهو ما جعل استحقاق ريعه للواقف نفسه، أو ذريته وأحفاده وأسباطه، ونحوهم من قرابته. ومن أمثلته أوقاف عدد من الصحابة رضي الله عنهم كأبي بكر وعمر وعلي والزبير وأبي طلحة وابن عمر وأنس رضي الله عنهم وغيرهم. والنوع الآخر الوقف الخيري أو العام، وهو ما يصرف ريعه في وجوه الخير والبر، سواء أكان على أشخاص معينين كالفقراء، أو كان على جهة من جهات البر العامة، كالمساجد. مشيراً إلى أن الوقف الأهلي جرى عليه تضييق ومحاولات لإلغائه ومصادرته من قبل بعض الحكام بدءاً بالملك الظاهر بيبرس، وانتهاء بالقوانين التي صدرت في مصر وسوريا والعراق بمنع الأوقاف الأهلية، وإلغاء ما كان موجوداً منها.
وقال: إن الولاية على الوقف سلطة شرعية، جعلت لكل عين موقوفة، فلا بد للموقوف من ناظر يدير شؤونه، ويحافظ على مصلحته من صيانة وعمارة وتنمية وحفظ وصرف لغلته على مستحقيها، والولاية الخاصة هي الأصل في الأوقاف، ومصدرها الواقف نفسه في الغالب، وهي أقوى من الولاية العامة، فمتى وجد للوقف ناظر خاص فليس للحاكم حق التصرف في الوقف، إلا في الحدود التي تسمح له بها صلاحياته كولي عام، والولاية العامة على الأوقاف هي من باب الولاية العامة على مصالح المسلمين، وهي من اختصاص الحاكم «الولي العام»، ومع توسع الأوقاف وكثرتها وتنوع مصارفها وكثرة العدوان عليها أسندت هذه الولاية في العصر الحاضر إلى وزارات الأوقاف في معظم البلدان.
أكد فضيلته أن الأصل في الوقف الالتزام بشروط الواقف، ما لم تخالف كتاباً أو سُنة أو إجماعاً أو مصلحة محضة أو غالبة، وأن المسلمين اتفقوا على أن شروط الواقف تنقسم إلى صحيح وفاسد، كالشروط في سائر العقود، ومن قال من الفقهاء: إن شروط الواقف نصوص كألفاظ الشارع، فمراده أنها كالنصوص في الدلالة على مراد الواقف، لا في وجوب العمل بها ما دامت مخالفة للشرع، والإلزام بشروط الواقف الموافقة للشريعة والمحققة للمصلحة وإبطال ما خالف ذلك منها هو جزء من مسؤولية الدولة في حماية الأوقاف وتحقيق مقاصدها الشرعية. والولاية على الوقف منوطة بالمصلحة، والناظر ليس له أن يفعل شيئاً في أمر الوقف إلا بمقتضى المصلحة الشرعية، وعليه أن يفعل الأصلح فالأصلح، وما خير فيه فهو تخيير مصلحة، لا تخيير شهوة وهوى.
ورأى الدكتور عبدالعزيز الفوزان أن من مسؤوليات الدولة تجاه الأوقاف محاسبة الولاة والنظار على الأوقاف ومتابعتهم، سواء أكانوا ولاة على الأوقاف العامة أو الخاصة، وتوجيههم للقيام بوظائفهم ومسؤولياتهم تجاه الوقف، وأن للحاكم النظر العام، فيعترض على الناظر الخاص إن فعل ما لايسوغ فعله لعموم ولايته، وله ضم أمين إلى ناظر خاص مع تفريطه أو تهمته؛ ليحصل المقصود من حفظ الوقف، ولا اعتراض لأهل الوقف على ناظر أمين ولاه الواقف، وتتأكد المحاسبة للنظار على الأوقاف العامة؛ لأنها في العادة أكثر وأثمن، والواقفون لها قد جعلوها في ذمة الدولة وتحت مسؤوليتها، وقد يكونون موتى منذ مئات السنين، كما أن المستحقين لغلتها غير محدودين أو معينين، فيسهل إهمالها أو التلاعب بها.
وأبان فضيلته أن الجهات المسؤولة عن محاسبة النظار جهتان: الواقف، والسلطان ونوابه، وهم القضاة، وكذلك الجهات الإشرافية المختصة بتنظيم الأوقاف والرقابة عليها، وهو ما كان يسمى سابقاً بديوان الأوقاف، ثم عرفت في زماننا بوزارة الأوقاف، أو إدارة الأوقاف، أو هيئة الأوقاف، أو نحو ذلك من التسميات، ويحق للموقوف عليهم، خاصة في الوقف الأهلي، أو الوقف الخيري على معين، سؤال الناظر عن مصروفات الوقف ووارداته، وذلك عند الاشتباه أو الشك في أمانة الناظر أو حسن تدبيره؛ لأن مصرف الوقف عليهم، فإذا كان السكوت عن الناظر يضر بحقهم كان لهم سؤاله عما أشكل عليهم، ومطالبته بكشوف الواردات والمصروفات؛ لتطمئن قلوبهم، فإن لم يتجاوب معهم كان لهم الحق في مخاصمته إلى القاضي الشرعي.
وأفاد بأن تصرفات الناظر على الوقف العام أو الخاص منوطة بالمصلحة، ومقيدة بشرط الواقف، ولما كانت بعض التصرفات في الوقف مؤثرة في الوقف زيادة أو نقصاً، وتحتاج إلى اجتهاد ونظر، لمعرفة مدى تحقق المصلحة للوقف، والتأكد من موافقته لشرط الواقف، كان لزاماً على الناظر أن يراجع القاضي فيما عزم عليه من تصرف قد يضر بالوقف ومصالحه، لافتاً النظر إلى أن مصلحة الوقف أو المصلحة العامة قد تقتضي بيع الوقف وشراء بدل منه، أو نقله إلى مكان آخر في البلدة نفسها أو غيرها من البلدان، أو استبداله بما هو أصلح للوقف وأنفع للموقوف عليه، ويجب أن يستأذن فيه القاضي، ولا يصح للناظر أن ينفرد برأيه، كما تجوز الاستدانة على الوقف عند الحاجة الماسة أو المصلحة الراجحة، ولكن لا بد من إذن القاضي في ذلك، للتأكد من أن المصلحة تقتضي ذلك.
وفي إشارته إلى آراء العلماء حول غلة الوقف قال فضيلته في نتائج بحثه: إن الذي يتلخص من كلام العلماء في إقراض غلة الوقف أنه جائز، بشرط إذن القاضي، وأن يكون القرض من غلة الوقف، وليس من عين الوقف أو قيمته، وأن يكون في حال استغناء الموقوف عليهم أو غيبتهم، فإن كانوا في حاجته كانوا أولى به من إقراضه لغيرهم، وأن يخشى تلف الغلة أو نقصها بضياع أو حريق أو سرقة أو غيرها، وأن يكون القرض على ثقة باذل، متى طلب منه رد القرض رده.
وواصل فضيلته قائلاً: ومن النتائج أن الناظر يستحق أجرة المثل، فإن قدرها له الواقف استحقها الناظر، ولو كانت أكثر من أجرة المثل، وإلا قدرها له القاضي، وعلى القاضي أن يجتهد في تحديد أجرة المثل بما يناسب كل حالة؛ وذلك لوجود عوامل عديدة تؤثر في مقدار هذه الأجرة، فالقاضي ينظر إلى كلفة الناظر في إدارته للوقف، ومقدار كفاءته، والوقت الذي يبذله، والنفع الذي يلحق الوقف من نظره، وأن الدولة مسؤولة عن تعيين ناظر على الوقف إذا كان الوقف لم يعين ناظراً عليه، وإذا تصرف الناظر بما ليس في مصلحة الوقف منعته الدولة وأبطلت تصرفه، ويمنع الناظر من تأجير الوقف لنفسه أو لولده أو والده أو زوجه؛ لأنه متهم بالمحاباة على حساب الوقف، وإذا أجر الوقف بأقل من أجرة المثل لزمه ضمان ما نقص عن أجرة المثل، ولو منعه الواقف من تأجير الوقف مطلقاً، أو ألا يؤجره أكثر من سنة، فخالف الشرط بطلت الإجارة، ولم يصح تصرفه، وأن يد الناظر على الوقف يد أمانة، فإذا تعدى أو فرط ألزمته الدولة بضمان ما تلف بتعديه أو تفريطه، وإذا كانت مصلحة الوقف تقتضي عزل الناظر واستبداله بأصلح منه، أو ضم ناظر آخر إليه؛ لأنه تصرف بخلاف شرط الواقف، أو قصر فيما يجب عليه تجاه الوقف، فلها ذلك.
وختم الدكتور الفوزان نتائج بحثه بالقول: إن الإشراف القضائي على النظار محصورٌ واقعاً بحالة التقدم للمحكمة في الدعاوى والإنهاءات، ولا يقوم قاضٍ بمحاسبة أو إجراء آخر تجاه ناظر إلا بطلب يقدم إليه، أو لكشف دعوى أو معاملة تتطلب ذلك، مما نتج منه تلاعب بعض النظار على الأوقاف وأكلهم لها، أو تفريطهم في حمايتها وصرف ريعها في مصارفه الشرعية.