بقلم - د. زاهر عبد الرحمن عثمان:
يبدأ التاريخ العملي الرسمي لصاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبد العزيز، حفظه الله، ولي العهد ونائب رئيس مجلس الوزراء وزير الدفاع، من توليه إمارة منطقة الرياض بالنيابة عام 1373هـ ثم أميراً لها منذ عام 1374هـ. ويدرك الجميع ما تميَّزت به إدارة سموه للمنطقة والتي أصبحت النموذج المُحتذى والمأمول لبقية مناطق المملكة. وقد حرص سموه عبر تلك المسيرة الرائدة على تقديم الجديد في نواحي العمل المختلفة. (صورة1)
وسنحاول هنا التعرَّض لبعض ما كان لسموه من سبق في مجالاتٍ يمكن استعراضها ببعض التفصيل بحكم طبيعة التخصص والعمل، وإن كانت مختصرة في المُجمل. وأثق أن هناك الكثير من السوابق لسموه في مجالات أخرى، لعل من أبرزها العمل الخيري، أرى أنه لزاماً على من هم أقرب إليها الكتابة عنها في خطوةٍ تعدُّ واحدةً من خطواتٍ واجبةٍ لتوثيق جوانب من تاريخ سموه.
التخطيط والدراسات:
عني الأمير سلمان منذ توليه إمارة منطقة الرياض. بتنميتها العمرانية وكانت بدايات التخطيط الأُولى ونشوء الأحياء الجديدة بتوجيه سموه. إلا أن النقلة العمرانية الأهم كانت في رؤية سموه لأهمية وضع تنمية المدينة تحت رؤية مخطَّطٍ شامل يوجِّه نموَّها. وهكذا ابتدأ في عام 1388هـ وضع المُخَطَّط الرئيسي لمدينة الرياض (مخطط دوكسيادس) والذي تم الانتهاء منه عام 1392هـ. وقد كان المُخَطَّط، رغم ما عليه من ملاحظات، وسيلة ساهمت إرشادياً في خلق توجُّهٍ تخطيطي ساهم في إدارة المدينة بشكل أفضل، وَوضع الإطار العام لشبكات المرافق العامة والتجهيزات الأساسية بما في تلك الطرق وتدرُّجَها، ومن ضمنها فكرة الطريق الدائري. وقد كان سمو الأمير سلمان رئيس اللجنة المكلفة بتقييم مخطَّط دوكسيادس، وساهم باقتدار في وصول المخطَّط إلى نتائج تعدُّ مثاليةً في ذلك الوقت. (صورة2).
أدَّت المتغيرات الاقتصادية إلى الحاجة إلى تحديث مخطَّط دوكسيادس الذي لم يعد قادراً على مجاراة النمو غير المسبوق للمدينة. وابتدأ العمل على مخطَّط سيت إنترناشيونال - سيدس عام 1396 هـ. إلا أن حظَّه لم يكن أحسن بكثير من سابقه، فلم يتمكن المخطَّط من التعامل بشكلٍ فاعلٍ مع المستجدَّات. ومع ذلك فقد ظلَّ الأداة التوجيهية للتنمية لسنواتٍ من خلال متابعة الهيئة العليا لتطوير مدينة الرياض وسمو رئيسها الذي جعل من أولى مهام جهازها التنفيذي (مركز المشاريع والتخطيط) المُنشأ في عام 1404هـ التخطيط بمفهومه الشامل. وبدأ المركز مساره التخطيطي عبر خطواتٍ منطقيَّةً من أهمِّها إجراء دراساتٍ شاملةٍ عن الوضع في المدينة كانت نواة قاعدة المعلومات التي تعدُّ أساساً لأية خطوات تخطيطية. وقد وصل المركز، بعد دراسةٍ للتجارب التخطيطيَّة السابقة في المدينة، إلى المًخطَّط الاستراتيجي الشامل للمدينة، والذي أقرَّته الهيئة العليا، فأصبح وسيلة توجيه ومتابعة النمو المفترضة للمدينة.
كانت لسمو الأمير سلمان رؤية مبكِّرة في أن تطوير المدينة لا يمكن أن يتم بمعزلٍ عن تطوير المنطقة. وربما يعلم قليلون أن دوكسيادس قام عام 1394هـ بإعداد مخطط عمراني إقليمي وبرنامج تحسين للمنطقة الوسطى (الرياض والقصيم)، وقد أوصى المخطَّط بالبدء بتكوين هيئاتٍ إقليمية ومعاملة المناطق كوحدات إقليمية، وهي خطوة تحقَّقت جزئياً فيما بعد من خلال نظام المناطق. كما قامت الهيئة العليا لتطوير مدينة الرياض، بالتنسيق مع مجلس المنطقة، بإعداد مخطَّط إقليمي شامل للمنطقة يهدف إلى رفع مستوى التنمية وتعزيز جاذبية محافظات منطقة الرياض من خلال تحديد الإمكانات الاقتصادية والاجتماعية والبيئية وتحديد أفضل البدائل لاستغلالها وتنميتها. وقد عني المخطط بوضع الآليات التي تساهم في تنفيذه على أرض الواقع وتحويل الخطط والسياسات والبرامج إلى واقع ملموس.
كان التخطيط يتمُّ عبر مستوياتٍ متعدِّدة. ولعلَّ من أبرز النماذج لحسن التخطيط مشروعات سكن موظفي وزارة الخارجية، وحي السفارات، وتطوير منطقة قصر الحكم، ومركز الملك عبد العزيز التاريخي. والتي طبقت أفكاراً جديدة استلهمت من التراث ومن الجديد لتقدِّم نماذج عمرانية بارعة. كما أن تطوير طريق الملك فهد قد حظي بقناعة سمو الأمير سلمان الذي أيَّد رفض فكرة إنشاء جسر علوي ووجَّه بألا يتم الأخذ بالحلول المعلَّبة وأن يتم إجراء دراسة شاملة يتم بناءً عليها تحديد البديل الأنسب، وكان ما أراد، وتم تطوير الطريق بشكلٍ حقَّق المتطلَّبات المرورية وقدَّم إضافة بيئية للمدينة.
الإدارة العمرانية:
أشار مخطَّط دوكسيادس إلى أن تنفيذ أية مخطَّطٍ شاملٍ للمدينة يتطلَّب عنايةً بإيجاد الإدارة المناسبة لتنسيق التخطيط العمراني. وكانت اللجنة العليا المشكَّلة برئاسة سمو الأمير سلمان بن عبد العزيز، أمير منطقة الرياض، لتقويم المخطَّط العام لمدينة الرياض قد أوصت بتشكيل الهيئة العليا لتطوير مدينة الرياض، وصدر قرار مجلس الوزراء رقم 717 في 28-29-5-1394 هـ بالموافقة على حدود مدينة الرياض طبقاً لما ورد في مخطَّط دوكسيادس وتشكيل الهيئة العليا لتطوير مدينة الرياض. ويعدُّ إنشاء الهيئة العليا خطوةً رئيسيةً نحو التنمية الشاملة لمدينة الرياض، تطوَّرت عبر السنين وتوسَّعت مهامها. وكانت الهيئة معنيَّةً في البداية بالمتابعة العامة للتنمية من خلال مخطَّطَي دوكسيادس وسيت وإقرار المشروعات الكبرى والاستثناءات لما يتعارض مع المخطَّطات، ومحاولة التصدِّي للمشكلات الناشئة عن حركة النموِّ العمراني المذهلة التي كانت تشهدها المدينة.
لم يكن للهيئة جهازٌ تنفيذي في البداية حيث كانت أمانة المدينة تؤدِّي بعضاً من تلك المهمَّة. وحين ظهرت بعض المشروعات الكبرى، رأى سمو الأمير سلمان أهمية إنشاء أجهزةٍ قادرة تتمكُّن من العمل على تصميمها وتنفيذها. ولعل أبرز تلك المشروعات كان مشروع تطوير حي السفارات الذي جاء استجابةً لقرار مجلس الوزراء رقم 1650 في 21-11-1395هـ القاضي بإنشاء حي السفارات ليكون مقرا للبعثات الدبلوماسية المعتمدة لدى المملكة حين انتقالها من جدة، وبذلك تستكمل مدينة الرياض وظائفها كعاصمة سياسية للمملكة. وقد أنشئ لذلك ولإسكان موظفي وزارة الخارجية مكتب مشروع وزارة الخارجية وحي السفارات مرتبطاً بلجنة تنفيذية عليا مستقلة برئاسة سمو الأمير سلمان بن عبد العزيز الذي حرص على أن يكون المشروع نقلةً عمرانيةً للمدينة. وكان سموه يتابع باهتمام خطوات المشروع من تصميم وتنفيذ من خلال الاجتماعات المستمرة والزيارات الميدانية، بالإضافة إلى الاهتمام بالجوانب التنظيمية والتعاقدية مع السفارات.(صورة4)
نبَّه مخطط دوكسيادس إلى أهمية العناية بتطوير منطقة قصر الحكم وإن كان تركيزه منصبَّاً على العناية بالجوانب الرمزية الدينية والسياسية والثقافية. وبناءً على توجيه سمو الأمير سلمان، بدأت أمانة مدينة الرياض عام 1396هـ خطواتٍ جادة نحو تطوير منطقة قصر الحكم كان أوَّلها تكليف الاستشاري فرانكو ألبيني بإعداد دراسة جدوى لتطوير المنطقة. ثم تطوَّرت الدراسة إلى خطَّةٍ رئيسيَّة مفصَّلة لتطوير المنطقة مع الحفاظ على وظائفها الرئيسية. وبناءً على اقتراح الأمانة، وافق سمو الأمير سلمان على إنشاء مكتبٍ لتطوير منطقة قصر الحكم على غرار مكتب مشروع وزارة الخارجية وحي السفارات. وقد تم إنشاء المكتب عام 1399هـ الذي رأى سموه أن يرتبط بالهيئة العليا لتطوير مدينة الرياض. (صورة4أ)
تطوَّرت قدرات مكتب مشروع وزارة الخارجية وحي السفارات. وبناءً على ما تحقَّق اعتماداً على قدراته رأى سمو الأمير سلمان إيكال بعض المشروعات الكبرى إليه للدراسة كان منها تطوير منتزه الرياض العام ومنتزه الثمامة وتطوير مدينة الدرعية وبعض المناطق الأخرى. ثم رأى سمو الأمير سلمان الأخذ باقتراح تضمَّن دمج جهود مكتبي مشروعي تطوير حي السفارات وقصر الحكم وجهاز التخطيط بالأمانة في مكتب يكون الجهاز التنفيذي للهيئة العليا فكان إنشاء مركز المشاريع والتخطيط عام 1404هـ خطوة أخرى في تطوير القدرات الإدارية والتطويرية للمدينة، وهو ما جعل الهيئة العليا لتطوير مدينة الرياض وكأنها وزارة أشغالٍ للمدينة تقوم على الإشراف على مشروعاتٍ حتى لوزاراتٍ بها أجهزة هندسية. وانعكست رؤية الأمير سلمان في التخطيط الشامل للمدينة على تطوير قدرات ومهام الجهاز التنفيذي للهيئة العليا لتطوير مدينة الرياض، حيث تم إنشاء إدارات خاصة للنقل والتطوير الاقتصادي، وللبحوث والدراسات.
عمل سمو الأمير سلمان على تطوير قدرات الأجهزة المعنيَّة بتطوير المدينة، وعلى تطوير سبلٍ جديدةٍ للمساهمة في تطوير المدينة. وكان نتاج ذلك التوجُّه نحو إنشاء شركتي المعيقلية والرياض للتعمير. وقد استحقَّت رؤية الأمير سلمان الإدارية إنشاء مركزٍ متخصِّص في جامعة الأمير سلطان باسم «مركز الأمير سلمان للإدارة المحلية».
تجديد الفكر العمراني:
حرص سمو الأمير سلمان على أن يكون التجديد الفكري عاملاً في النظرة التطويريَّة العمرانية مع الحفاظ على الثوابت. ولعله من المفيد أن نستعرض في أسطرٍ محدودةٍ عن كل مشروع ما كان من سبْقٍ لبعض المشروعات التي كانت تحت توجيه سموه.
مشروع حي السفارات:
رأى سمو الأمير سلمان عدم مناسبة فكرة إنشاء حيٍّ مستقلٍّ للدبلوماسيين منعزلٍ عن المدينة. وحرص على أن يكون الحي إضافةً نوعيَّةً للمدينة وتجربةً رائدةً في فكرته وتخطيطه وتنفيذه. وقد تمَّت دراسة العديد من الأمثلة المشابهة لإنشاء أحياء للسفارات في عواصم مختلفة من العالم مثل إسلام أباد وبرازيليا والدوحة خلال مراحل إعداد مخطط الحي. وقد تم وضع بدائل لتخطيط الحي قبل الخروج بنموذجٍ وسطٍ يقترح إقامة حيٍّ على هيئة وحدةٍ مدنيَّةٍ ذات ارتباطٍ وثيقٍ بالمدينة، يحقِّق المتطلَّبات الأساسيَّة للحي ويتكامل مع البنية العمرانية للمدينة ويرتبط بها وظيفيَّاً وإداريَّاً واجتماعيَّاً.
تميَّز الحي بتصميمه الحضري الذي ابتعد عن تقييد التخطيط الشبكي، وأخذ بفكرة المركز المستمدَّة من المدينة التقليدية سواء في مركز الحي أو مراكز الأحياء السكنية. كما تميز مشروع الحي بإثارته فكرة احترام البيئة والهوية العمرانية ضارباً النموذج في المشروعات الرئيسيَّة التي حظي بعضها بتقدير عالمي. كما تميَّز الحي بإنشاء جميع شبكات المرافق في كامل أحيائه. ولعلَّه من المناسب ذكر أن تطوير نمطٍ مختلفٍ لمآذن مساجد الرياض كانت بدايته من مشروعات مساجد حي السفارات. كما أنه من المهم ذكر أن مشروع سكن موظفي وزارة الخارجية يعدٌّ التجربة الأولى في تقديم حيٍّ مثالي يُعنى بالمشاة ويقدِّم نمطاً عمرانيَّاً يحافظ على الخصوصيَّة ويوفِّر أقصى متطلَّبات السلامة والرفاهية. (صورة 5)
مشروع تطوير منطقة قصر الحكم:
افترض مخطط دوكسيادس استمرار الوجود الرمزي السياسي والثقافي في منطقة قصر الحكم. ومع ذلك فإن التطور الشامل للمدينة شهد توجُّهاتٍ بإنشاء مقارَّ جديدة للعديد من المؤسسات الرسميَّة في الأجزاء الحديثة من المدينة. إلا أن سمو الأمير سلمان رأى ضرورة بقاء الوظائف الأساسية لمنطقة قصر الحكم تأكيداً لأهميتها ولأبعادها التاريخية. وبدأ العمل بمخطط ألبيني ثم كلَّف مكتب مشروع تطوير منطقة قصر مجموعة البيئة الاستشارية بمراجعة مخطط ألبيني. وتطورت المراجعة إلى إعداد مخطَّطٍ شاملٍ لتطوير المنطقة يركِّز على أن تكون أساساً للمشاة ويقترح تطويراً جذريَّاً للمنطقة.
بُديء بتنفيذ المخطط الذي لم يبرز إلى الوجود منه إلا مجمع المباني الإداريَّة الذي يضم مقار الإمارة والأمانة والشرطة. وقد رأى مركز المشاريع والتخطيط بعد إنشائه أهمية إعادة النظر في المخطَّط. ووجَّه سمو الأمير سلمان بأهمية تطوير برنامجٍ عملي للتطوير يمكِّن من البدء بإنشاء قلب المنطقة وعناصره الرئيسية. وقد هُدِم الجامع الكبير وقصر الحكم في عام 1408هـ، وأُعيد بناؤهما في إطار برنامجٍ تطويري لقلب المدينة، يهدف إلى إعادة الحيويَّة إلى منطقة قصر الحكم، تقديراً وتأكيداً لأهميتها التاريخيَّة وأصالة تراثها. وقد تمَّ بناءً على رغبة صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبد العزيز آل سعود، أمير منطقة الرياض ورئيس الهيئة العليا لتطوير مدينة الرياض إطلاق اسم الإمام تركي بن عبد الله مؤسِّس الدولة السعودية الثانية على الجامع، رمزاً لدوره التاريخي وحفاظاً مؤكِّداً لإنشائه للجامع وبنائه لقصر الحكم.
تميَّز تطوير منطقة قصر الحكم بتطويرٍ عصريٍّ للعمارة التقليديَّة مستنداً إلى عراقة جذورها وأصالة فكرها. وجاءت العمارة نتاج تشكيلٍ عمرانيٍّ مريح أخذ في الاعتبار إعادة تشكيل الساحات التقليديَّة في ترابط أصيل.(صورة 6)
مشروع مركز الملك عبد العزيز التاريخي:
رأس سمو الأمير سلمان اللجنة المعنيَّة بالاحتفاء بالذكرى المئويَّة لتأسيس المملكة. وقد رأى سموه أهميَّة استغلال المناسبة لتترك أثراً وطنيَّاً ملموساً يتجاوز مجرَّد الجانب الاحتفالي. وكان مشروع المتحف الوطني متوقِّفاً بسبب عدم اعتماد الميزانيَّة المطلوبة. وهكذا فقد وجد سمو الأمير في المناسبة فرصةً لإنشاء هذا المشروع الوطني وتطوير الفكرة ليكون المتحف جزءً من مركزٍ تاريخيٍّ ثقافي. وتطوَّرت الفكرة لإنشاء مركز الملك عبد العزيز التاريخي الذي كانت نواته قصر المربع وأهم عناصره المتحف الوطني ودارة الملك عبد العزيز وفرع مكتبة الملك عبد العزيز العامة وقاعة الملك عبد العزيز بالإضافة إلى مقرِّ قطاع الآثار والمتاحف.
تباينت عمارة مشروعات المركز التاريخي حسب متطلَّباتها الوظيفيَّة. إلا أنها جميعاً كانت نتاج استلهامٍ أنيقٍ للتراث العمراني. وأصبحت ساحات المركز التاريخي، بالإضافة إلى وظائفها الترويحيَّة، مجالاً لامتداد الأنشطة الثقافية والتراثية. (صورة 7)
برنامج ممرات المشاة:
شهدت مدينة الرياض نهضةً عمرانيَّةً سريعة. وبالرغم من إيجابياتها إلا أنها أغفلت إلى حدٍّ ما تخصيص عنايةٍ أكبر بالإنسان تمثَّلت في ندرة ممرات المشاة والأرصفة التي تساعد السكَّان على السير. وانطلاقاً من هذا الواقع فقد أيَّد سمو الأمير سلمان توجُّه أمانة منطقة الرياض لتأهيل بعض الشوارع الرئيسة وتطوير ممرَّات مشاةٍ يمكن من خلالها تفعيل العلاقات الإنسانية بين السكان من ناحية أخرى، وإيجاد متنفَّسٍ لأحياء مدينة الرياض للترويح عن السكَّان وممارسة المشي بين جنباتها في جوٍّ بهيج. وقد تطوَّرت الشبكة التي أضافت بعداً إنسانيَّاً للمدينة، وزاد عددها عن 18 ممرَّ مشاةٍ بطول 29 ألف متر. وأصبحت الشبكة برنامجاً طموحاً ضمن البرنامج الشامل لأنسنة المدينة. وقد تعدَّت آثار البرنامج إلى مدن المملكة الأخرى التي حذت حذو الرياض واستلهمت تجربتها. (صورة 8)
التنمية والعناية البيئية:
وضع مخطَّط دوكسيادس الإطار العام لشبكات المرافق العامة والتجهيزات الأساسيَّة. وتضمَّن المخطَّط فكرةً لإيجاد منطقة ترويحيَّةٍ مطلَّة على وادي حنيفة، ربما كانت هي بداية التفكير في العناية البيئيَّة بالمدينة. وقد تميَّز تطوير مدينة الرياض بالعناية بالنواحي البيئيَّة من جوانب شتى، منها غير المتعارف عليه من الحدائق والساحات وتشجير الشوارع ما يلي:
تنسيق المواقع:
لم يكن تنسيق المواقع مصطلحاً معروفاً في الإطار المحلِّي قبل بدء عناية الهيئة العليا لتطوير مدينة الرياض به كأحد جوانب اهتماماتها. وقد تعدَّى ذلك الفكر الجديد منطلقاً من الرياض إلى مدن المملكة الأخرى. كانت البداية في مشروعي تطوير حي السفارات والمجمع السكني لموظفي وزارة الخارجيَّة، حيث تم تطوير نوعين من تنسيق المواقع، المكثَّف والذي يتركَّز في الحدائق وتشجير الشوارع، والانتشاري والذي كان على جنبات الوادي والمناطق الصحراوية. وقد تمَّ التركيز على استغلال النباتات البيئيَّة وأنظمة ريٍّ متطوٍّرة تأخذ في الاعتبار توفير المياه. ثم استمرت في ساحات منطقة قصر الحكم، وحدائق وساحات مركز الملك عبد العزيز التاريخي. ويعد برنامج أنسنة المدينة الذي تقوم عليه أمانة منطقة الرياض والمتضمن برنامجاً شاملاً لممرات المشاة سبقاً عمرانيَّاً أعاد للمدينة بعض متطلباتها.
التأهيل البيئي لوادي حنيفة ووادي السلي:
عانى وادي حنيفة لسنين طوالٍ من اعتباره الساحة الخلفيَّة للمدينة، وهو ما عنى إساءة استغلاله كموردٍ بيئي. وكانت الكسَّارات التي انتشرت على جنبات الوادي إحدى أبرز مشكلاته. وقد بدأت الهيئة العليا لتطوير مدينة الرياض منذ إنشاء مركز المشاريع والتخطيط بالاهتمام بتلك المشكلة وباعتبار الوادي مصرفاً طبيعيَّاً للمياه. وتطوَّرت تلك الخطوات إلى تطوير الوادي وروافده إلى متنزَّه طبيعي كبير بعد إعادته مصرفاً طبيعيَّاً لمياه الأمطار والسيول. وقد تم تأهيل الوادي ليكون أحد أهم المناطق الطبيعيَّة المفتوحة والمتاحة للتنزُّه. وجديرٌ الذكر أن خطَّة التأهيل البيئي تتضمَّن الأودية الرافدة لوادي حنيفة.
واستمراراً للعناية بأودية المنطقة فقد وافق سمو الأمير سلمان بن عبد العزيز على توجُّه أمانة منطقة الرياض لإعادة تأهيل وادي السلي حفاظاً على البيئة الطبيعيَّة وتعزيزاً للجوانب الترويحيَّة في المناطق الطبيعيَّة.
متنزه الثمامة:
تأكيداً لمبدأ استغلال الفرص لصالح المدينة، وجَّه سمو الأمير سلمان بتشكيل لجنة للاستفادة من مزرعة الملك خالد، رحمه الله، بالثمامة. وقد تم التوصُّل إلى فكرة تطوير منتزهين برٍّي ووطني تم دمجهما فيما بعد في مشروع بيئي واحد يمثِّلُ أحد أبرز صور الاستغلال المثالي للموارد الطبيعية، ويقدِّم أنشطة التنزُّه والترويح في إطار يحافظ على أنشطة التخييم التقليديَّة.
ارتفاع منسوب المياه الأرضية:
تعاني العديد من مدن المملكة من ارتفاع منسوب المياه الأرضية. وابتدأت المشكلة في التفاقم إلا أن التنبُّه لخطورتها وآثارها السلبيَّة الجسيمة كان سبقاً لمدينة الرياض. فقد تنبهت الهيئة العليا لتطويرها إلى تلك المشكلة وآثارها ورفعت تقريراً حظي بقناعة وموافقة سمو الأمير سلمان الذي سعى إلى الحصول على الميزانيات اللازمة. وأصبح خفض منسوب المياه الأرضية بالمدينة برنامجاً رئيسياً من برامج تطوير المدينة. وقد انتقلت تلك التجربة إلى العديد من مدن المملكة الأخرى.
العناية بالتراث:
يكاد الحديث عن تاريخ المملكة وتراثها لا يمر دون أن يعرِّج على دورٍ بارزٍ لسمو الأمير سلمان بن عبد العزيز الذي تجلَّت عنايته بالتراث في جميع مجالاته. وغني عن الذكر أن اهتمامات سموه بالتراث تتعدَّى المحلِّي إلى العربي والإسلامي. وسيظلُّ التراث الوطني، خاصةً العمراني مديناً لسمو الأمير سلمان بن عبد العزيز لما أولاه إيَّاه من بالغ اهتمامه وجميل عنايته.
التراث العمراني:
أوضح سمو الأمير سلمان نظرته إلى التراث العمراني في محاضرته التي ألقاها في اللقاء السنوي التاسع للجمعية السعودية لعلوم العمران عام 1420هـ، حيث أكَّد على أهميَّة الاعتداد بالأصالة وضرورة المواءمة بين الماضي والحاضر. وقد حرص سموه على أن تُعنى الجهات المعنية بالمنطقة بالتراث العمراني من خلال الحفاظ والتأهيل وتكوين القدرات والمتطلبات لتحقيق ذلك. وتجاوز سموه في هذا الإطار ليحرص على أن يتضمن «معرض الرياض بين الأمس واليوم»، والذي تطوَّر ليصبح «المملكة.. بين الأمس واليوم» ليُعرِّف بتراث المملكة العمراني العريق.
جاءت عناية سمو الأمير سلمان بالتراث العمراني من خلال رؤيةٍ واضحةٍ شاملة لجميع مجالات العناية بالتراث العمراني بدءًا بالحفاظ على التراث العمراني الذي تمثَّل في مشروعاتٍ وبرامج عدَّة منها برنامج تطوير الدرعيَّة التاريخيَّة الهادف إلى تحويل الدرعيَّة التاريخيَّة إلى ضاحية ثقافيَّة، سياحيَّة، ترويحيَّة ذات حضورٍ عالمي. وقد انضمَّ حي الطريف إلى قائمة التراث العالمي التابعة لمنظمة اليونسكو عام 1431هـ تأكيداَّ لأهمية الدرعيَّة وتراثها العمراني. كما كان من ضمن البرامج برنامج المساجد التراثيَّة وبرنامج قصور الملك عبد العزيز التاريخيَّة والذي يهدف إلى إعادة وتأهيل وتوظيف المباني التاريخيَّة في عهد الملك عبد العزيز كمراكز حضاريَّة وثقافيَّة وإبراز البعد العمراني لها كعناصر تعكس هويَّة المملكة العمرانيَّة التراثيَّة. وقد طوَّرت الهيئة العليا لتطوير مدينة الرياض برنامجاً متخصِّصاً للعناية بالتراث قام بدراسة بعض المناطق التراثيَّة مثل عرقة ومنفوحة، وبتوثيق معالم المدينة التراثيَّة ووضع خطَّةٍ للعناية بها. (صورة 11- صورة11أ)
تضمَّنت الرؤية مشروعاتٍ لتوظيف وإعادة تأهيل بعض المباني والمعالم التراثيَّة ومن أهمها حصن المصمك الذي أعيد ترميمه وتأهيله ليكون متحفاً يعرض مراحل توحيد المملكة. وقصر المربع الذي يعدُّ نواة مشروع مركز الملك عبد العزيز التاريخي، والذي تم تحويله إلى متحفٍ لتراث الملك عبد العزيز رحمه الله. أما في مجال تطوير التراث العمراني من خلال التأصيل والاستلهام فقد بدت عناية سمو الأمير سلمان من خلال العديد من المشروعات المهمَّة ومن أبرزها تطوير منطقة قصر الحكم التي تمثِّل العبق التاريخي لمدينة الرياض، وتطوير حي السفارات وخاصةً منطقته المركزية، ومشروع مركز الملك عبد العزيز التاريخي. وقد حظيت العديد من مشروعات الهيئة بتقديرٍ عالمي لعل أبرزه جائزة الأغا خان للعمارة الإسلامية والتي كانت المملكة أكثر الدول الحصول عليها وكانت الرياض أكثر المدن، والهيئة العليا لتطوير مدينة الرياض أكثر الجهات حصولاً عليها.
كان سموه يؤمن بأن التعامل مع التراث العمراني ليس مجرد عاطفة وإنما يمتدُّ إلى الأبعاد الأصيلة الأعمق لذلك التراث. ولهذا كان تطوير التراث ضمن الأولويات التي تمَّت العناية بها من خلال البحوث والدراسات والندوات والمعارض والإصدارات المتخصِّصة وإنشاء المراكز التخصُّصيَّة. وقد حظيت جهود سموه بامتداد تأثيرها إلى مناطق المملكة المختلفة وبالحصول على تقديرٍ مهني عالمي تجلَّى في حصول العديد من المشروعات على جوائز إقليميَّة وعالميَّة مرموقة. وقد تشرَّفت جائزة الأمير سلطان بن سلمان للتراث العمراني بقبول صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبد العزيز آل سعود ولي العهد نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الدفاع «جائزة الأمير سلطان بن سلمان للتراث العمراني عن فرع جائزة الإنجاز مدى الحياة» لعام 1434هـ.
استعادة الآثار:
خرجت بعض الآثار المهمَّة من المملكة بطرقٍ متعِّددة وبنوايا مختلفة. وقد كان سمو الأمير سلمان أول من عمل على استعادة تلك الآثار حين عمل على دعم الجهود لاستعادة مجموعة أثريَّةٍ مهمَّة هي مجموعة بارجر إلى المملكة عام 1422هـ. وتتكون المجموعة من 14 قطعة أثرية مهمَّة، يرجع تاريخها إلى ما قبل الإسلام. وكانت المجموعة طليعة الكنوز الأثريَّة العائدة إلى موطنها، واحتلَّت مكانها المناسب في المتحف الوطني. ويمثِّل نجاح تلك الخطوة بداية خطوات عديدة استكملتها الهيئة العامة للسياحة والآثار وحققت فيها نجاحاتٍ تستحق الذكر.
الذاكرة التاريخيَّة:
لعلَّ مما أصبح معروفاً أن سموه يمتلك ذاكرةً حادَّة الوضوح شديدة الإدراك للتفاصيل تضيف إلى براعته بالتاريخ بُعداً ثميناً. وأذكر أنني تشرَّفت بحضور عرض مسودة كتاب «عبد العزيز» وهو الكتاب المصور الذي أصدرته مؤسسة التراث بالتعاون مع دارة الملك عبد العزيز. وقد تصفَّح سموه المسودة معلِّقاً حيناً و موجِّهاً أحياناً، ثم توقف متمعِّناً في إحدى الصُّور متسائلاً عن دقَّة التعليق عليها. وعندما تم التأكيد لسموه أنها لقصر الحكم أعاد النظر فيها مؤكِّداً وجود ملامح من القصر فيها إلا أنه طلب التأكد منها إذ أن الباب الذي بدا في الواجهة الشرقية للمبنى ليس في قصر الحكم. ومع مقام سموه وذاكرته تم الرجوع إلى معلومات الصورة واتضَّح أنها فعلاً للقصر وأن الباب الذي أشار إليه سموه كان في مرحلةٍ مبكِّرة (كان موجوداً حوالي عام 1917 م عندما زار فيلبي الرياض المرة الأولى) وأغلق فيما بعد.
لم يتوقف استيعاب سمو الأمير سلمان للتاريخ عند حدوده التقليديَّة بل انعكس على نقل بعضٍ من ملامح تلك الذاكرة إلى المدينة التي تدين بكثير من تطوُّرها إليه. وقد أصرَّ سموه، كمثال ، على بقاء جامع الإمام تركي بن عبد الله في موقعه كما وجَّه بأن تكون ملامح العمران الحديث للرياض منطلقةً من امتدادات تراثها العمراني العريق. ويُذكر هنا أن سموه كان حريصاً على أن يعود باب قصر المربع إلى موقعه الأصلي وكذلك بوابة الثميري، وعلى الحفاظ على تطوير متنزَّه سلام وحديقة الفوطة، وحديقة مناخ الملك عبد العزيز، وحديقة جبل أبو مخروق. كما أكَّد على أهمية تطوير حي الدحو بمنطقة قصر الحكم، والذي يعدُّ من أقدم الأحياء داخل حدود سور الرياض القديم. وأيَّد إعادة بناء أجزاء من سور المدينة القديم وبوَّاباتها. إنَّ سلمان لا يحفظ التاريخ و يدركه عن ظهر قلبٍ فحسب، وإنما يصنع بفكره امتداداً لذلك التاريخ.
يَعدُّ المؤرِّخون سلمان بن عبد العزيز واحداً منهم قدَّم الكثير منذ زمنٍ لتاريخ المملكة، لعلَّ أبرزه فعاليات احتفالات المئويَّة وإنشاء جائزةٍ باسمه لدراسات تاريخ الجزيرة العربية كانت هي الأسبق لتكريم المؤرخين. وقد ساهمت معرفة سموه الدقيقة بتاريخ المملكة والرياض خصوصاً في تصحيح بعض المعلومات التاريخيَّة، ومنها توضيحه، حفظه الله، لتاريخ مجمع قصور المربع والأحداث التي احتوتها منشآته، وتحديد أسماء بعض المباني التاريخيَّة وأهم الأحداث التاريخية المرتبطة بها ضمن برنامج تطوير الدرعيَّة التاريخيَّة. وتطرَّق اهتمام سموه إلى أدق التفاصيل العمرانيَّة في مبنىً له أهميته الخاصة مثل قصر الحكم، حيث وجَّه حين اطِّلاعه على التصاميم بإضافة الجسر بين القصر والجامع وبإضافة ما يعرف بـ «الحبوس»على جدار القصر. (صورة 15 - صورة 16)
تطوير المؤسسات الثقافية والعلمية:
يُعرف عن سمو الأمير سلمان اهتمامه بالتاريخ الذي أصبح يُعُّد مرجعاً فيه. وقد حرص سموه منذ أن أصبح رئيساً لمجلس إدارة دارة الملك عبد العزيز على تطوير الدارة التي شهدت بتوجيهه نقلةً كبرى في مجالات عملها وأصبح حضورها في جميع أنحاء المملكة، بل وتعدَّى التقدير لها كمؤسسةٍ رصينة معنيَّة بتاريخ المملكة إلى خارج الحدود. كما كانت فكرة إنشاء مكتبة الملك فهد وطنية إحدى سوابق الأمير سلمان الذي حوَّر فكرة الاحتفال بمبايعة الملك فهد، رحمه الله، إلى منشأةٍ وطنيَّةٍ حضاريَّة. وتضم المكتبة بناء على قناعة سموه، الأرشيف الوطني للصور التاريخية الذي أصبح المرجع الوطني الأهم للصور التاريخيَّة. وقد تشرَّف الأرشيف بتحويله مؤخراً إلى «مركز الأمير سلمان لحفظ الصور». (صورة17)
يرجع لسمو الأمير سلمان بن عبد العزيز الفضل والسبق إلى إنشاء مؤسسة الرياض الخيرية للعلوم والتي تهدف إلى الرقي بمستوى العلوم في المملكة. وقد كان نتاج تلك المؤسسة جامعة الأمير سلطان بن عبد العزيز التي تعدُّ أول جامعة أهليَّة بالمملكة. وقد استطاعت الجامعة في زمن قصير أن تتبوَّأ مكانةً ساميةً بين جامعات المملكة. كما تتولَّى المؤسسة تطوير واحة الأمير سلمان للعلوم والتي يجري تنفيذها حاليَّاً والتي كان لسمو الأمير سلمان السبق في تبنِّيها منذ زمن كأوَّل مركزٍ علمي في المملكة يقدِّم فكرة التعلُّم بالتجربة الذاتيَّة.
ولعلَّه من المناسب هنا الإشارة إلى أن الجامعة السعوديَّة الأبرز، جامعة الملك سعود، مدينة بعرفانٍ خاص لسمو الأمير سلمان الذي منحها معظم الأرض التي تقوم عليها مباني الجامعة الحاليَّة.