ثورة المعلومات المعززة بتقنية الاتصالات في عالمنا العربي لم تستطع - حتى الآن - أن تصنع وعياً حقيقياً لدى جماهير الأمة العربية حول حقيقة ما جرى ويجري منذ أن أضرم البوعزيزي التونسي النار في نفسه يوم (17 ديسمبر 2010م)، احتجاجاً على مصادرة عربته التي كان يدفعها في السوق ليعيش منها، وكأنه بذلك يدفع بقاطرة
العرب نحو الفوضى أو فقدان البوصلة في بحر متلاطم الأمواج من الفتن الداخلية والاضطراب السياسي، فكانت المظاهرات الشعبية في مصر وليبيا واليمن والبحرين والأردن وسوريا والجزائر والمغرب وغيرها، حيث نجحت بعض الأنظمة في معالجة المطالب الجماهيرية بحكمة ووعي سياسي فتجاوزت الأزمة كمملكة المغرب، والبعض الآخر واجه تلك الجماهير بالقمع فكانت سقوط نظامه كما في مصر وليبيا واليمن والعراق والوضع مستمر في سوريا، وأخرى تجاوزت أزمتها مؤقتاً فما زال تحت رماد السكون وميض نار الفتنة.
والإشكال الحقيقي في المشهد العربي الراهن، الذي يصفه الكثيرون بـ(ثورات الربيع العربي)، أن النخبة المثقفة على مستوى العالم العربي، من دعاة وشرعيين ومفكرين وباحثين وسياسيين وكتاب رأي وإعلاميين وحقوقيين وأكاديميين، أنها لم تتفق على وصف هذا المشهد الملتهب بـ(الربيع العربي)، الذي هو أساساً وصف غربي، كما أنها لم تستطع أن تحدد طبيعته أو على الأقل ملامحه، من حيث كونه ثورات شعبية حقيقية، أم حركات احتجاج مستمرة، أم فوضى داخلية تحركها أيد خفية، أم صراع سياسي بين تيارات حزبية ومؤسسات حكومية في البلد الواحد بعد سقوط نظامه. لأن مفهوم الثورة يعني إسقاط مؤسسات الدولة التابعة للنظام السياسي القائم، وقيام مؤسسات أخرى وفق رؤية زعماء الثورة وقادتها ومطالب الثائرين، فهل حدث هذا بالنسبة لدول ما يُسمى الربيع العربي؟. يغلب تقديري أن ذلك لم يحدث بدلالة الصراع السياسي الحاد بين تيارات فكرية وأحزاب سياسية ومؤسسات السلطات في تلك الدول مع استمرار الاحتجاجات التي تتخذ أحياناً أشكال عنف متنوع.
فضلاً عن أن الثورات عبر التاريخ كانت تندلع تحت رايات معينة، وتنادي بشعارات محددة، ولها مطالب واضحة، وتقودها زعامات وقيادات ورموز مؤثرة تستطيع التحكم بمسار وحركة الجماهير الثائرة. فهل كان لما يسمى ثورات الربيع العربي، قيادات ورموز فعلية؟ قطعاً لا، بدلالة أن كل الأطراف الداخلة في تلك الثورات تدعي وصلاً بليلى الثورة، وأنها الوصية على مولودها الديمقراطي، حتى مؤسسات النظام السابق الذي أسقطته هذه الثورة أو تلك صارت تتحدث بمنطق الثوار وتدعي حماية الثورة. لهذا يمكن تلخيص المشهد العربي اليوم بربيع (التمرد) العربي، فهو تمرد شعوب على أنظمتها المستبدة بسبب الفساد والظلم والقمع، من خلال احتجاجات شعبية تحولت إلى مظاهرات عارمة تسمت بالثورات، رغم أنها لا تملك بوصلة وعي سياسي، كما لا تملك خطة بناء لما بعد سقوط النظام، لأنها بالأساس لم تقم على ثقافة راسخة من العمل الديمقراطي والقيم الحضارية. فالدم هو لغة الموقف، والصراع على السلطة هو العلامة الفارقة لعرب التمرد.