بينما كنت أقرأ للفيلسوف الفرنسي «غاستون باشلار» كتابه «الماء والأحلام دراسة عن الخيال والمادة» طباعة مركز دراسات الوحدة العربية والمنظمة العربية للترجمة وقفت عند عبارته: [يسقط الزمن قطرة قطرة من الساعات بشكل طبيعي]. صورة ذهنية لعملية تناقص الزمن وتلاشيه إذا ما أدركنا بأن الزمن جانب أساسي في الخيال الأدبي..
يمنحه هويةً منفصلة وشخصية مختلفة عن الواقع الحقيقي.
الزمن الذي شغل ذهن الفلاسفة وقد انقسموا أمامه إلى فريقين، فريق ذهب إلى القول إن الزمن «موجود خارج الذات» ويطلقون عليه الزمان الموضوعي، حيث نظر فريق إلى أن حركة الزمان دائرية في حين نظر فريق آخر إلى أنه يسير في خط واحد. بينما ذهب الفريق الآخر إلى القول إن وجوده «داخل الذات» مع نفي أي وجود خارجها. فالمسرحيات واللوحات الفنية والمقطوعات الموسيقية تنبني على فكرة الزمن وهل هو داخلي أو خارجي، بالتالي كان الزمن باعثاً للأمل، وهو أيضاً سبب في الأحزان والأشجان استناداً إلى مبدأ الفناء والعدم.
وفي العلم كان الزمن محوراً تدور حوله الأبحاث العلمية وعنه تولّدت نظريات الاقتصاد في محاولة لاستغلال الزمن بصورة اقتصادية منتجة من أجل استثمار الأموال وتنميتها أو مضاعفتها حتى وصل العلم إلى اختراع الساعة لارتباطها المتين بالزمن.
اهتم علماء النفس بالزمان اهتمام الفلاسفة؛ ذلك لأنه يشكل قياساً للعمر، ومدة البقاء. فعبارات مثل أكبر وأصغر، وبداية ونهاية، ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالزمان ارتباط ما قبل وما بعد. لذا عندما يصف غاستون باشلار أن الزمن «يسقط من الساعات قطرة قطرة بشكل طبيعي» فإنه يشد ذهننا ويلفته لصورة الماء أو المطر في تقاطره على الأرض أو على الأسطح [وقت كتابتي للمقالة تزامنت مع وقت سقوط الأمطار] حيث بين كل قطرة وقطرة زمن ليس بهين أبداً. وربما يتصور ذهنك ساعتك اليدوية أو ساعة الحائط، والماء أو المطر يتساقط منها جنباً إلى جنب دوران عقارب الساعة بتوجيه من الزمن.
الزمن قيمة حياة ووجود، فهما القالب الذي صُب فيه الوجود. أشار «كانط» إلى أنهما إطاران مفطوران في صلب العقل الإنساني الذي يقوم بعملية المعرفة، وشكلان قبليان للحساسية يتم وفقاً لهما ترتيب معطيات هذه الحساسية ومضمون خبرة الإنسان بالعالم الخارجي.
عبارة غاستون عن تساقط الزمن قطرة قطرة إشارة إلى أضلاع مثلث الزمن: الماضي والحاضر والمستقبل والتوظيف الفلسفي له عندما وظّفه في عبارته السارقة والآسرة لذهني، تلك التي جعلتني أسترجع مقولة الفيلسوف أوغسطين: «ليس المستقبل طويلاً وإنما الطويل هو توقع المستقبل، وليس الماضي طويلاً، وإنما الطويل هو ذاكرة الماضي» في ربطه بين تلك الوظائف العقلية وهي الذاكرة والانتباه والتوقع والأثر النفسي حول مدى إدراك الإنسان للزمن وهو المعنى الذي تناوله النفسانيون فيما بعد. كانط له فلسفة مثالية للزمن، فقد ذهب إلى أنه لا وجود للزمن إلا إذا كان في النفس الإنسانية تأثر به. بينما يرى «جون لوك» أن الزمن ليس زمناً أو مدة من حيث هي كذلك سوى طول خط مستقيم من إلى مالا نهاية. أشبه بالنهايات المفتوحة التي نقف عليها في الروايات أو في السينما ونحو مأخوذين بتسلسل الأحداث فتنتهي الرواية وينتهي الفيلم.
أعظم حافز لرؤية الزمان بوصفه بعداً موضوعياً مطلقاً وأساسياً هو تطور الساعة، حيث أنشئت في الغرب منذ القرن الثالث عشر الساعات الآلية التي تدور بأثقال ساقطة، وتنظم حركتها ميكانيزمات ضبط الانفلات، وظهرت الساعات العامة التي تدق عدد الساعات دون أن يكون لها واجهة وعقربان في المدن الإيطالية منذ القرن السابع عشر. وبحلول القرن التالي ظهرت للوجود الساعات المنزلية والمنبهات فأحدثت ثورة في إحساس الإنسان بالزمن وبالتالي توارى الحساب الذاتي للزمن أو الحكم على الزمن بمقدار ما ينجزه الإنسان من عمل، فكان الدعامة الحيوية للرأسماليين في كونه ضابطاً لإيقاع العمل.
مهما أبحرت في مركب الزمن وتلاطمت بي أمواج بحاره لن أفي الزمن حقه ولن أعطي عبارة غاستون باشلار 1962 - 1884 كامل معناها ومجمل قصديته. «غاستون باشلار» واحد من أهم الفلاسفة الفرنسيين وأعظم فيلسوف ظاهري وأكثرهم عصرية، اهتم بالتحليل النفسي للنار، وللماء والأحلام، وللهواء والرؤى، وللتراب وأحلام الإرادة والتراب وأحلام الراحة، كذلك اهتم بجماليات المكان، وبشاعرية أحلام اليقظة في آخر كتاب له، فقد قال: «نحن نعيش في عالم نائم علينا أن نوقظه بواسطة الحوار مع الآخرين. وما إيقاظ العالم إلاّ شجاعة بأن نوجد ونعمل ونبحث، نخترع، نبدع» صدقت يا باشلار لكن من يسمع بالتالي يستمع لاستماعك ثم استماعي لك وأنت تقول: «يسقط الزمن قطرة قطرة من الساعات بشكل طبيعي، يسقط الزمن قطرة قطرة من الساعات بشكل طبيعي».