جاء في كتاب (بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار) أحد كتب الحديث والروايات عند الشيعة الاثني عشرية «لمحمد باقر المجلسي» أن «جعفر الصادق» قال : (لو أني حدثتكم بفضل زيارته وبفضل قبره - أي قبر الحسين - لتركتم الحج رأساً وما حج منكم أحد؛ ويحك أما علمت أن الله اتخذ كربلاء حرماً آمناً مباركاً قبل أن يتخذ مكة حرما) ج 98 ص 33 . ويقول «آية الله السيد عباس الحسيني الكاشاني» في كتابه (مصابيح الجنان) ص 360 ما نصه: (فلا شك في أن أرض كربلاء أقدس بقعة في الإسلام، وقد أعطيت حسب النصوص الواردة أكثر مما أعطيت أي أرض أو بقعة أخرى من المزيّة والشرف فكانت أرض الله المقدسة المباركة، وأرض الله الخاضعة المتواضعة وأرض الله التي في تربتها الشفاء، فإن هذه المزايا وأمثالها التي اجتمعت لكربلاء لم تجتمع لأي بقعة من بقاع الأرض حتى الكعبة)!
رئيس الوزراء العراقي «نوري المالكي» عندما شعر بورطته التي تحاصره وتتزايد ضغوطها عليه يوماً بعد يوم بسبب فشله السياسي، لجأ إلى إثارة النعرة الطائفية الشيعية في أقصى مواقفها المتطرفة والمتشددة، ومنها أن كربلاء توازي في قدسيتها (مكة المكرمة) كما في الروايات آنفة الذكر؛ فاتكأ على تلك الروايات وقال في تصريح له عندما زار كربلاء : (كربلاء يجب أن تكون هي قبلة العالم الإسلامي لأن فيها الحسين، وإن شاء الله تمنياتي على الأخوة في الحكومة المحلية أن يعجلوا ويسرعوا في تطوير الخدمات اللائقة المناسبة لاستقبال زوار الإمام الحسين في كل المناسبات وزائرو الأمام الحسين ليسوا فقط في المناسبات التي نحياها في العاشر من المحرم وفي الأربعين وإنما في كل جمعة بل في كل يوم لأنه قبلة والقبلة نتجه إليها في كل يوم خمس مرات وكذلك الحسين هو ابن هذه القبلة التي أوصانا الله تبارك وتعالى أن نتجه إليها).
أعرف أن كل تلك الآثار الشيعية ومنها ما ذكرت في مقدمة هذا المقال لم تنص صراحة على أن كربلاء (قِبلَة)؛ غير أن المالكي أراد أن يذهبَ بعيداً في غلوه وتطرفه في تقديس كربلاء رمز الشيعة الأول، كي يكسب مساندة الطائفيين الشيعة في العراق - وهم بالمناسبة كثر - خاصة والتعصب للمذهب والطائفة هذه الأيام هو (المُرجِّح) الأول في الانتخابات العراقية كما هو مُشاهد؛ ولأنه فشل فشلاً ذريعاً في تحقيق ما يبرر بقاءه كرئيس وزراء سواء في استتباب الأمن ومحاصرة الإرهاب الذي يحصد آلاف العراقيين بشكل يتزايد مع مرور الوقت، أو في ما يتعلق ببناء البنية المدنية الخدماتية التي أنهكتها الحروب والأزمات السياسية المتعاقبة على مدى أربعة عقود ماضية، ما وجد ألا حلا أمامه لمواجهة (فشله) إلا الخندق الطائفي المتشدد، فراح يتخذ مواقف موغلة في التطرف ويستدعي من التراث الشيعي مثل هذه الروايات لتكون سلاحاً يحارب به خصومه (السنة والشيعة العرب العراقيين)، وفي الوقت ذاته يُرضي به (صفويي طهران) الذي يُمثلهم في حكم العراق .
المراجع الشيعية الكبار سواء من كان منهم في العراق - السيستاني مثلاً - أو مراجعهم الأخرى في إيران لم ينبسوا ببنت شفة تجاه هذه (الطامة) العقدية التي تجعل الطائفة الشيعية تبدو وكأنها (دينٌ) آخر تماماً؛ السبب أن التشدد والإيغال في توظيف هذه الروايات المتطرفة والتحصن بها سياسياً يصب في مصلحتهم (الكهنوتية) العليا، ويجعل إرضاءهم وتملقهم والتقرب إليهم وإلى (مراقد) أئمتهم وقدسيتها مضمار سباق يتنافس فيه السياسيون؛ وهذه غاية المنى بالنسبة لهم؛ وهو في الوقت نفسه يُكرس علاقة الأخوة الطائفية (كأولوية عقدية) تجعل الشيعة العراقيين يرتمون أكثر في أحضان دولة الولي الفقيه في إيران على حساب الاستقلال الوطني فيُرضي الكهنوت الإيراني في طهران، وهذه من أولوياته السياسية.
بقي أن أقول : إن المالكي بهذا التطرف الطائفي المقيت يُسهم مساهمة مفصلية في تمزيق وتشظي المجتمع العراقي، خاصة في زمن أصبح فيه الصوت الطائفي المتطرف، عند الشيعة والسنة على حد سواء، هو الصوت الذي لا يعلو عليه أي صوت . وبدلاً من أن يعمل المالكي كرئيس وزراء (لكل العراقيين) على لم الشمل وتكريس اللحمة وتضييق الفجوة بين العراقيين، ها هو يتلمس الأسباب ليزيد من تباعدهم وتشرذمهم بل وتناحرهم طائفياً، والخاسر النهائي طبعاً هو العراق الموحد .. هؤلاء - أيها السادة - من يتترسون بالطائفية عندما يتربعون على عرش السلطة في أي زمان ومكان يُمزقون أوطانهم.
إلى اللقاء