برغم من مرور أكثر من أربعة عشر قرناً على بزوغ رسالة الإسلام في نبذ العصبية والقبلية والهمجية لم ينجح العرب في تطبيق تلك التعاليم، ولا زالت النعرة الهمجية تتردد على أسماعنا بدون توقف، وقد نستطيع القول إن تعاليم الدين النقية انهزمت أمام طغيان النعرة العرقية، وأصبحت مع مرور الوقت خادما في حضرة سيادة القبيلة، وعلى مر العصور لم يستطع العرب الخروج من تقاليد القبيلة في حضارتهم، بينما استطاعت دول غير عربية أن تستفيد من تعاليم الدين الصحيحة، وأن تؤسس لحضارة إنسانية تحكمها العدالة والتنمية وحقوق الإنسان، كما حدث في ماليزيا وإندونيسيا وأيضاً تركيا.
كنّا نأمل أن نستفيد من تجارب الآخرين في إخراج المجتمع من النعرات العرقية من خلال نشر ثقافة العمل، ثم إدخال المجتمع إلى مرحلة الإنتاج وعصور الصناعة والتقنية، لكن المفاجأة أن الفعاليات والمهرجانات الشعبية التي تعزز من تلك الثقافة أصبحت تزدهر، في حين تكرس تلك المهرجانات نعرات تستمد تقاليدها من سنين الجوع والخوف، ولا زالت نسبة غير قليلة تعتقد أن القبيلة هي المكون الأهم من مكونات الوطن، وأنه في زمن الفوضى سيجد العربي في القبيلة ورجالها الأقوياء الأمن والحماية من تهديدات الخوف والجوع، بينما كنّا ننتظر أن يكون المواطن هو المكون الأهم من مكونات الوطن، وأن يغدو الإنتاج الفردي مقياسا للتنمية في الدولة التي لا زالت تبحث عن ظل لها في زمن الحضارة الإنسانية الأكثر توهجاً.
من أخطر الظواهر في حياة البشر أن تتزاوج نظريات العرق الأسمى مع تعاليم الدين المعدلة لخدمة أغراض وأهداف القبيلة الهمجية، وقد تعلمنا من التاريخ أن المحصلات النهائية لذلك التزاوج دائما ما تكون دموية ومدمرة، كما حدث في تجرية النازية والعرق الآري، والتي تعتبر أكثر تطوراً، بعد أن تم استخدامهما لخدمة أهداف غير معلنة، وكان الاختلاف عند الألمان في تجربتهم الهمجية إن صح التعبيرعن التجربة العربية، أنهم طوعوا الدين والقبيلة الآرية في قالب غير سوي لإحداث نهضة صناعية عسكرية باهرة، وكانت المحصلة النهائية حربا عالمية أودت بحياة الملايين، وإلى تدمير ألمانيا، لكن هناك من يعتقد أن ذلك التزاوج كان خلف النهضة الصناعية في ألمانيا..
الاختلاف أن القبيلة في الثقافة العربية لم تكن منتجة للحضارة في أي عصر من العصور، ولكن كانت مصدراً لإفراز غرائز البقاء في صحراء الجفاف، وقد يكون وجه الاختلاف في الطبيعة التي ساعدت القبيلة الهمجية في ألمانيا في الوصول إلى أهدافها التوسعية، بينما أفشلت قساوة الطبيعة وفقرها مشاريع القبيلة العربية المتحالفة مع الدين، وكان اكتشاف النفط بمثابة الفرج، لكن الظروف السياسية الدولية لم تساعد على إطلاقها، وفي الوقت الحاضر توجد محاولات أصولية قبلية لإعادة إنتاج مثل ذلك الفكر من خلال تزاوج معلن بين النعرة القبلية التي تتشدق بنقاء العرق وكماله، وبين تعاليم دينية ليست في الضرورة تمثل الدين الحنيف، لكنها تستغل بعض رواياته التي تمجد القبيلة والسيف من أجل الوصول إلى أهدافها.
في نهاية الأمر لا يزال الوقت سانحاً للخروج من ذلك النفق المظلم، و نحتاج أكثر من أي وقت مضى إلى فكر إستراتيجي مؤثر، يحول البلاد من وحدات قبلية غير منتجة إلى وطن يكون فيه الفرد المواطن رمزاً للإنتاج والإنجاز، وتحل فيه الشركة محل القبيلة، ولن يحدث ذلك إلا باستنساخ تجربة كوريا الجنوبية، والتي أحدث تلك القطيعة بنجاح، في حين اختارت شقيقتها كوريا الشمالية أن تحكمها همجية القبيلة السياسية، والتي لم تخلف إلا الجوع والدمار، بينما أصبح نصفها الآخر الجنوبي مثالاً للتنمية الاقتصادية، بعد أن حلت الشركة الصناعية الكبري في محل القبيلة المترامية الأطراف، وأصبحت منتجاتها مزايين تتفاخر بها الدولة في الأسواق العالمية.
أكتب هذا المقال من وحي ما شاهدناه من نعرات قبلية همجية و تراشق بالرصاص، ومما كتبه الزميل والأخ محمد بن عبداللطيف آل الشيخ في زاويته ومطالبته لوزير التعليم الجديد الأمير خالد الفيصل بتطبيق التجربة الكورية في التعليم، وأزيد على ذلك مناشدة معالي وزير التخطيط ووزير التجارة والصناعة باستنساخ تلك التجربة، وقبل ذلك أن نثبت للعالم أننا نريد بالفعل الخروج من طغيان ثقافة القبيلة الهمجية.