بعد صدور ميزانية الخير والتي وصلت لأرقام فلكية، تداعت بعض الأفكار، والتي قد لا يتفق البعض معها، لكن ثقافة الحل الواحد والعلاج الواحد والفتوى الموحدة والمصدر الاقتصادي الواحد يزيد قلق من هم على شاكلتي، وذلك عندما أعلم أن الأرقام الخيالية جاءت بسبب واحد، وهو أن أسعار النفط مرتفعة في ظل ظروف اقتصادية عالمية، وليس بسبب تعدد مصادر الإنتاج في الوطن..، ومن أجل فهم فلسفة اختزال الاقتصاد في وسيلة واحدة، وهي بيع النفط فقط ثم صرف موارده في الاستهلاك لابد من فهم الذهنية السعودية التي تنعم بالطمأنينة والاسترخاء لدرجة غير مسبوقة، في حين تداعت بعض اقتصاديات بعض الدول في العالم بسبب فشل الخطط التنموية في إيجاد البدائل قبل فوات الأوان.
يتميز السعوديون بالبساطة المتناهية واختزال المشكلات والحلول في إجابات محددة، وهم في طبعهم لا يحبذون قدر الإمكان الإطالة في الشروحات والتفصيل، ويظهر ذلك في ميلهم للحصول على إجابات مختصرة لمشاكلهم الكبيرة، ويتضح هذا الميل في برامج الفتاوى عندما يتصلون على واعظ ما للحصول منه على إجابة واحدة على مشكلاتهم المعقدة، كذلك يفضل الوعاظ إعطاء إجابات جازمة وقطعية، وينتهون في الغالب إلى تحريم الأشياء إذا شعروا أن في الأمر تساهل، أو إذا شعروا بوجود ضرر على المجتمع من خلال نظرة انطباعية سريعة، ويستخدمون ذلك الأسلوب كستار واق كان يُطلق عليه التحوط، وهو بناء حائط عال ومتين من التحريم المشدد، وبعيد نسبياً عن الخط الفاصل بين الحلال والحرام، وذلك لإغلاق أبواب الجدل والتفصيل في الأشياء.
من الأشياء الملفتة أيضاً للنظر عند السعوديين أيضاً التأخر في مواجهة أزماتهم الصحية، لهذا السبب على وجه التحديد يلجأ الناس إلى الحل الواحد والعلة المنفردة لمختلف المشكلات، لذلك يهربون على سبيل المثال من الفحص المبكر عن الأمراض المستعصية، وعن أسبابها وعن التفصيل في علاجها، وإذا ظهرت علاماتها يلجأون إلى الأسباب التقليدية والشمولية لكل الآفات الاجتماعية مثل العين والسحر والجن، ويجدون في العلاج الموحد الذي يقدمه بعض المجتهدين أفضل الحلول وأنسبها، وتظل خيارات العلم الحديث والإجراءات الطبية التفصيلية بالنسبة للكثير خيار أخير، قد يضطر أحدهم للذهاب إليها إذا استعصى عليه الأمر، ولم ينفع معه العلاج الموحد.
تعود مصادر الفلسفة الاختزالية في نظرتهم للحياة إلى ثقافة التوكل، فهم دائما ما يتفاءلون بالمستقبل، ويدعون الله عز وجل أن لا يغير عليهم، وأنه عز وجل سيرزقهم من دون لا يعملون، وأنه عز وجل خص هذه البلاد بالثروات من دون العالمين بالخيرات لفضلهم، وحرصهم على تطبيق الشريعة، وبسبب هذا التوكل غير المنضبط بالتعقل قد تكمن الأخطار المحدقة بهم في المستقبل، ويحتاج الأمر إلى تغيير تلك الرؤية المبسطة، والعمل على استبدالها قبل أن نصل إلى زمن اللاعودة، وخصوصاً إذا أدركنا أن ثروة النفط ناضبة، وأن هذا الكون تحكمه قوانين طبيعية لا تتبدل.
في ظل التواكل الحالي تأخرنا كثيراً في مواجهة الأزمة المنتظرة، وتاهت في ذاكرتنا الوطنية ما حدث للوطن قبل ثلاثة عقود، وذلك عندما وصلت أسعار برميل النفط إلى أسعار متدنية، وتأثر الدخل القوي بذلك، كذلك تأثرت مداخيل الناس إلى درجة كبيرة، والمفترض أن المؤمن لا يُلدغ من جحر مرتين، وأن نعمل على استبدال تلك الطمأنينة والتوكل وثقافة الحل الواحد إلى قلق وعمل دؤوب تصاحبه حالة بحث مستمرة عن الحلول المعقدة التي تخرج هذه البلاد من اقتصاد الحل الواحد إلى اقتصاد متعدد المصادر لا يتأثر بأسعار النفط في المستقبل..
أخيراً، يجب أن نخرج من سكرة النفط، وأن نقلل كثيراً من التوكل الطيب إن صح التعبير، وأن نصحو قبل فوات الأوان ونغير من تطبيقات الاقتصاد الحالية ونظامه الريعي القديم، وهو الحصول على المال من المصدر الاقتصادي الواحد، وليس بمفاهيمه الحديثة التي تقدم الاقتصاد على أنه علم الثروة الذي يعتمد على الوسائل المتعددة والمتجددة لاغتناء الأمم، وقد كان اقتصاد هذه الأمة في الماضي يعتمد على دخل الغنائم من غزو الأمم الأخرى، لكن ذلك المفهوم تجاوزته الأمم الحديثة، وأصبحت اقتصادياتها تتنوع مواردها، وتخضع لصيغ مختلفة، قابلة للتطوير والتغيير في كل عقد من الزمان.
ختاماً المورد النفطي يشكل أكثر من 90 % من الدخل القومي، ولا يوجد في الأفق بدائل ووسائل تقلل من الاعتماد على بيع النفط ثم استهلاك عوائده، ومع ذلك سأردد معكم، عسى الله يطول عمر النفط، ولا يخلينا منه.