سلامة الفكر والأمن الفكري مصطلحان مرتبط كل منهما بالآخر وهما تعبيران دقيقان يصوّران أقصى درجات الاهتمام بفكر الإنسان، وحمايته من منهجي الإفراط والتفريط، أو الغلو والانحراف، فالأمن الفكري كفيل -بإذن الله- بحفظ فكر الفرد المسلم وحمايته، وجعله في جادة الوسطية والاعتدال، وفي المقابل فالخلل في الأمنِ الفكريّ طريقٌ إلى الخللِ في الجانب السلوكيّ والاجتماعيّ، وهذا بدوره أدى في عصرنا الحاضر إلى كثير من الانحرافات لدى بعض أفراد المجتمع المسلم مما أدى بهم فكرهم المنحرف إلى ارتكاب أفعال قتل وتدمير وإلحاق الخسائر الفادحة بمقدرات المجتمع المسلم وثرواته إلى جانب ما صاحبه من إزهاق للأرواح البريئة الآمنة سواء المسلمة، أو غير المسلمة التي تعيش داخل المجتمع المسلم..عدد من المتخصصين في العلوم الشرعية تحدثوا عن آلية تنقية الفكر من الشوائب ومسؤولية العلماء والدعاة وطلبة العلم والمؤسسات الشرعية في ذلك.
الضرورات الخمس
يؤكد الدكتور إبراهيم بن ناصر الحمود الأستاذ في المعهد العالي للقضاء بالرياض أن الإسلام جاء بحفظ الضرورات الخمس، والتي منها: (حفظ العقل) والعقل من نعم الله التي فضل الله بها الإنسان على سائر المخلوقات، يعرف به صاحبه الحسن من القبيح، والنافع من الضار، والخير من الشر، والحق من الباطل، والخطأ من الصواب والشباب أسرع تأثراً من غيرهم وأكثر طواعية في الانقياد لما يبث في عقولهم من السموم والأفكار الزائفة بشتى الوسائل (المسموعة والمرئية والمقروءة)، مما يجعل شباب المسلمين معول هدم لقيم الإسلام وأخلاقه، لذا جاء خطاب الشارع مخاطباً عقول البشر وإن من الشباب من يكون سوياً معتدلاً، وفي غفلة من نفسه ينساق خلف فئة أخرى قد وقعت في وحل الانحراف، وتغريه بأفكارها التي في ظاهرها الرحمة وفي باطنها العذاب، حتى توقعه في شباكها ويتشبث بأفكارها، فيكون رجلاً آخر، فأصحاب الشر والفساد حريصون على إفساد غيرهم حتى تقوى شوكتهم ويتسع نفوذهم، فيعملون على استمالة من يرونه سهل الانقياد والإذعان لهم، ويظهرون لهم المودة والمحبة حتى يطمئنوا إليهم، ثم يبدؤوا في تعتيم أفكارهم.. ومن أهم شرائح المجتمع في تحمل مسؤولية توجيه الشباب ومكافحة ما لديهم من انحراف فكري: العلماء والدعاة وطلبة العلم والمؤسسات الشرعية والمؤسسات التربوية عموماً، وأهمها: المنزل والمدرسة والمسجد، على كل هؤلاء مسؤولية كبيرة في مواجهة الفكر المنحرف بشتى الوسائل الكفيلة بمعالجته وتقويمه بالتوجيه والإرشاد.
وأكد فضيلته على الدور البارز للعلماء في هذا الشأن، فهم الذين تحملوا أمانة العلم وتبليغه للناس ونهوا عن كتمانه ومسؤوليتهم أمام الله أعظم، فواجب عليهم تبيين الحق وفضله والدعوة إليه للخاصة والعامة، وكشف زيغ الباطل والتحذير منه وخاصة تلك الطائفة التي ابتليت بالانحراف الفكري فعميت بصيرتها عن الحق وقادتها نفسها الأمارة بالسوء إلى إلحاق الضر بالمسلمين وغيرهم من الآمنين والاعتداء على الممتلكات بالتخريب والسعي بالفساد في الأرض، فهذه الطائفة هي المستهدفة لكونها أحوج من غيرها بسبب ما تعانيه من لوث فكري، ثم يأتي دور الدعاة الذين تحملوا أمانة الدعوة إلى الله، والدعوة لا تقتصر على دعوة غير المسلم إلى الإسلام، بل من المسلمين ما هو بأمس الحاجة إلى من يأخذ بيده إلى طريق الاستقامة ويبين له خطأ ما هو عليه من السلوك الذي ألحق الضرر بالآخرين نتيجة خلل فكري، والداعية لديه القدرة على الإقناع بالحجة والبرهان، وقد ثبت ذلك جليا من خلال لجان المناصحة التي وجهتها وزارة الداخلية من عدد من الدعاة لمناصحة أصحاب الفكر المنحرف، وقد أثبتت تلك اللجان جدواها وكان لها أثركبير في هداية معظمهم واستقامتهم وتصحيح مفاهيمهم الخاطئة.
وواصل قائلاً: أما المؤسسات الشرعية فلا تقل أهمية عن غيرها في التوجيه والإرشاد كالجامعات التي تحتضن شريحة كبيرة من الشباب، فيتعين عليها أن تجعل هذه المسؤولية من أولويات اهتماماتها، سواء عن طريق مناهج التعليم التي هي الوسيلة المباشرة التي تخاطب عقول الشباب، وهذا يتطلب أن تشتمل المناهج التعليمية على فقرات في الأخلاق والسلوك وسلامة الفكر من الانحراف مما يحقق الأمن الفكري لديهم الذي هو وسيلة لتحقيق أمن المجتمع، وكذلك تخصيص جزء من المحاضرة للتوجيه والإرشاد وبيان الحق من الباطل وبيان أهمية الأمن وضرورته للحياة، وكذلك أهمية تحقيق المواطنة الصالحة وأن الوطن للجميع وأمنه أمن أفراده وممتلكاته، ومن المؤسسات التربوية الأسرة التي هي اللبنة الأولى في تربية الناشئة وهي التي تحتضن الشاب مدة طويلة في حياته، والتقصير حاصل من الأبوين معاً، فمن الآباء من يشكو عزلة ولده عنه وعدم تواصله معه، وتمضي الشهور بل الأعوام وهو لا يعلم عنه شيئاً، وتعتبر الأسرة الأساس المتين الذي يقوم عليه هذا الكيان فبصلاح الأساس يصلح البناء، وكلما كان الكيان الأسري سليماً ومتماسكاً كان لذلك انعكاساته الإيجابية على المجتمع، والمجتمع يسعى جاهداً لتهيئة كل الفرص التي تمكن هؤلاء الأفراد من أداء أدوارهم الاجتماعية وتنمية قدراتهم بالشكل الذي يتوافق مع أهداف المجتمع.
تيار الفكر المنحرف
واستمر الدكتور إبراهيم الحمود قائلاً: ولا يخفى الدور الكبير الذي يقوم به الأبوان في تربية الأبناء، انطلاقاً من قول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، فالأب راع ومسؤول عن رعيته والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها) فالرعاية تعني المحافظة على سلوك الأبناء وتوجيههم الوجهة السليمة، واختيار الرفقة الطيبة، والمتابعة المستمرة، فإن الإهمال يفتح المجال أمام الأبناء إلى التفكير بلا ضابط، مع عدم القدرة على إدراك المصلحة، مما يجعلهم ينساقون بسهولة عبر تيار الفكر المنحرف، وما يتبعه من سلوكيات خطيرة، كل ذلك بسبب غيبة الأبوين عن مسرح الحياة التي يخوضها الأبناء، في معزل عن الموجه والمربي والقدوة الحسنة، وكم من أب حصد خيبة أمله في صلاح ولده، وندم على ما مضى حيث كان مشغولاً لاهياً بمصالحه الشخصية، حتى دب داء الانحراف إلى ولده، فمسؤولية الأب أكبر ودوره أعظم، فلو أخذ الآباء وصية لقمان لابنه مثلاً في حياتهم لأدركوا عظم هذه المسؤولية، ومن تلك الوصايا ما جاء في قوله تعالى: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ. وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ. وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ}، فهذه الآيات تضمنت دستوراً كاملاً في الأخلاق الكريمة، ففيها توجيه للولد بمراقبة الله عز وجل، ودعوته إلى كل معروف ونهيه عن كل منكر، وأن يتحلى بالصبر على ما يصيبه من أذى في سبيل ذلك، وألا يسوقه صلاحه واستقامته إلى الكبر والغطرسة واحتقار الناس، بل عليه التحلي بأخلاق الإسلام، كالتواضع والتأدب مع الناس، وبهذه التربية يعيش الولد حياة حقيقية، حتى لا يكون هملاً ضائعاً بلا نظام يقوده ويقوم سلوكه.
وبين فضيلته أن الأب حين يدرك أبعاد المهمة الصعبة التي كلف بها، عليه أن يتحمل ويصبر ويحتسب، فإن مسؤولية التربية والتوجيه مسؤولية صعبة، تحتاج إلى جهد مضاعف، فلا ييأس مهما طال الزمن، فإنه متى احتوى أولاده وحفظهم من جلساء السوء، وبين لهم واجبهم في الحياة تجاه دينهم ووطنهم وولاة أمرهم وعلمائهم، فإنه بإذن الله يحميهم من خطر الانحراف متى استمر في التوجيه والمتابعة، ويظل الأب حريصاً على صلاح ولده وكمال خلقه، حتى يكون ولداً صالحاً نافعاً في مجال أسرته ومجتمعه ووطنه مطيعاً لولاة أمره معيناً على الحق داعياً إليه، ومتى خلصت النوايا وتضافرت الجهود، استطعنا بإذن الله أن نحمي أولادنا من الانحراف، وذلك بتنمية الوازع الديني وزرع الفضيلة في النفوس والتحذير من الرذيلة، وترسيخ المبادئ الدينية لدى النشء، وتحسين الظروف الاجتماعية للأسرة ورفع مستوى المعيشة، فالفرد متى ولد في عائلة بهذه الصفات اكتسب منها القيم والسلوكيات الحسنة، ومن جانب آخر تحصين الشباب وحمايتهم من السلوكيات المنحرفة، وذلك يكون بملء وقت فراغهم بكل ما هو مفيد، ويمكن للأسرة أن تقوم بدور مهم في مجال وقاية أفرادها من الانحراف وذلك من خلال السلطة الوقائية التي تمتلكها الأسرة القائمة على التنشئة السليمة، والسلطة الرقابية التي تتمثل في متابعته، وعدم تركه عرضة لكل ناهب.
دراية بالتقنيات
وفي ذات الصدد أكد فضيلته على دور الأم الكبير في إدارة أسرتها وتخريج نماذج حسنة من أبنائها، ومن هذا المنطلق تعتبر المرأة العنصر الأساسي في اكتشاف السلوك والفكر المنحرف لدى الأبناء ولهذا أصبح من الضروري إسهام المرأة في معرفة مؤشرات السلوك التطرفي وعلاماته، ومن أهم واجبات الأم نحو أبنائها أن تعطي نفسها القدوة الحسنة لأبنائها وأن تكون على دراية بالثقافة التربوية الشاملة لجميع مراحل العمر، كما أن عليها أن تجعل مصادر ثقافة أبنائها نقية لا يشوبها شيء من الباطل والمغالطات وأن تجعل القرآن والسنة مصدراً لثقافتهم، كما أن عليها أن تكون على دراية بتقنيات العصر وبالأخص ما يتعلق بالشبكة العنكبوتية، فالأم هي الحضن الأول لتهيئة الأبناء للحياة وبداية الطريق نحو الخير أو الشر، والانحراف الفكري لدى الأبناء توجه خطر على كافة أصعدة الحياة، ودور الأسرة دوركبير وأساسي في تحقيق الأمن الفكري لأبنائها فعليها أولاً تعليم أبنائها التوحيد الصحيح وتنقيته من أي شوائب وتقوية الوازع الديني لديهم وثانياً عليها احتواؤهم وتقوية علاقتهم بولاة أمرهم وحبهم لوطنهم. وثالثاً مراقبتهم بين وقت وآخر، والتربية في معناها الشامل تشمل ما يصلح الإنسان ويسعده.
ودعا الدكتور الحمود الأسرة ومن خلال دورها التربوي أن تهتم بغرس القيم والفضائل الكريمة والآداب والأخلاقيات والعادات الاجتماعية التي تدعم حياة الفرد وتحثه على أداء دوره في الحياة وإشعاره بمسئوليته تجاه مجتمعه ووطنه وتجعله مواطنا صالحاً في المجتمع مثل: الصدق والمحبة والتعاون والإخلاص وإتقان العمل، وتعليم الأبناء الكيفية السليمة للتفاعل الاجتماعي وتكوين العلاقات الاجتماعية من خلال ما يتعلمه الأبناء في محيط الأسرة من أشكال التفاعل الاجتماعي مع أفراد الأسرة، مشدداً على أهمية الدور الوقائي حيث إنه مكمل للدور التربوي ولا يقل أهمية عنه، إذ يظن كثير من الآباء والأمهات أن دورهم في تربية أولادهم ينتهي عند بلوغ الولد أو البنت سنا معينا فيغفلون عنه ظناً أن أولادهم كبروا ولا يحتاجون إلى توجيه ومتابعة،وهذا خلل في التربية ينتج عنه مشاكل لا تحمد عقباها.
وقال: إن الدور الرقابي وظيفة تعتبر امتدادا لوظيفة التنشئة الاجتماعية التي لا تتوقف ولا تتقيد بمرحلة عمرية معينة لضمان الانضباط والتقليل من التجاوزات قدر الإمكان والمتابعة هنا تعني ملاحظة سلوكيات الأبناء وتصرفاتهم من خلال المتابعة داخل وخارج الأسرة، إن الأسرة من منطلق حرصها على التنشئة الاجتماعية السليمة وحسن استغلال وقت الفراغ والتفاعل بجدية مع مؤسسات المجتمع المختلفة تسهم بشكل حيوي في صناعة الفرد الصالح في المجتمع. والفرد الصالح في المجتمع أمان للمجتمع في حاضره ومستقبله، ومتى قام كل من العلماء والدعاة وطلبة العلم والمؤسسات الشرعية والتربوية بدورهم في احتواء الشباب وحمايتهم من الفكر المنحرف تحقق بإذن الله الأمن الفكري للفرد والمجتمع.
سلامة الفكر
ويقول الشيخ عبيد بن عساف الطوياوي الداعية وإِمام وخطيب جامع الخلف بحائل: إن سلامة الفكر نعمة عظيمة، ينعم بها الله -جل وعلا- على من شاء من عباده، بل هي أعظم نعمة، لأنها تعني السير على الصراط المستقيم، والعمل بالمنهج القويم، والبعد عن مزالق الضلال والزيغ والانحراف، ولذلك قال -جل وعلا- مذكراً لنا بهذه النعمة: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}، وفي نفس المناسبة التي أنزلت فيها هذه الآية -وهي حجة الوداع- قال النبي صلى الله عليه وسلم، كما في حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-: (يا أَيهَا النَّاسُ إِنِّى قَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ فَلَنْ تَضِلُّوا أَبَدًا كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ). وفي الحديث الصحيح، يقول صلى الله عليه وسلم: (لقد جئتكم بها بيضاء نقية ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك)، فسلامة الفكر أعظم نعمة ينعم بها الله -جل وعلا- على عبده المسلم، ففيها الضمان والأمان ـ بإذن الله تعالى ـ في الدنيا والآخرة، والسلامة من مضلات الفتن، ما ظهر منها وما بطن، لأنها وفق شرع سليم، وضعت معالمه من قبل رب عليم خبير حكيم، ولذلك يوم القيامة، يندم غاية الندم، من ترك أمر الله -جل وعلا-، المتمثل بما أوحاه إلى نبيه صلى الله عليه وسلم، ويتبين له خطر وسوء، من لعب بعقله، ولوث وأفسد سلامة فكره، كما قال -تبارك وتعالى-: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا، يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا، لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا}، يقول ابن كثير، في مختصر تفسيره: يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ نَدَمِ الظَّالِمِ الَّذِي فَارَقَ طريق الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم، وَمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مِنَ الْحَقِّ الْمُبِينِ، الَّذِي لَا مِرْيَةَ فِيهِ، وَسَلَكَ طَرِيقًا أُخْرَى غَيْرَ سَبِيلِ الرَّسُولِ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ نَدَمَ حَيْثُ لَا يَنْفَعُهُ النَدَمُ، وَعَضَّ عَلَى يَدَيْهِ حَسْرَةً وَأَسَفًا.
وأبان فضيلته أن لسلامة الفكر ثمارا يانعة، ونتائج نافعة، في الدنيا والآخرة، فالسعادة والأمن، والطمأنينة والاستقرار، والراحة النفسية ـ والذي نفسي بيده ـ لا تتحقق إلا مع سلامة الفكر، ولذلك أكثر الناس شقاء وتعاسة وعدم استقرار، هم الذين فسدت أفكارهم، ولذلك يقول -جل وعلا-: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى، وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى، قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا، قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى، وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى}، ويقول ابن سعدي في تفسيره، (وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ) بأن تعدى الحدود، وارتكب المحارم وجاوز ما أذن له. وهذه من أبرز الجرائم التي يقع فيها، من فسدت أفكارهم، يتعدون حدود الله، بقتل المسلمين، وتكفير العلماء الربانيين، كما يفعل التكفيريون، أو بالدعوة إلى ما يفسد الدين، والتهوين من العلماء، كما يفعل الليبراليون، أو بنشر البدع والخرافات، ونسبها إلى الدين، كما يفعل المجرمون الرافضة والصوفيون، أو الانشغال بالدنيا، ونسيان الآخرة، كما يفعل الغافلون، وصدق الله: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا، فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ، وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ، فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ، إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ}.
وشدد فضيلته على أن حفظ العقل الذي هو مناط الفكر، مقصد من مقاصد الدين، وضرورة من الضرورات التي جاء بالعناية بها شرع رب العالمين، فيجب على المسلم أن يعرض كل فكرة تعرض له، على نصوص الكتاب والسنة، بفهم الصالحين من سلف الأمة، الذين شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالخيرية، وأمر بالسير على نهجهم، والمحافظة على طريقتهم، كما جاء في الحديث الصحيح، عن العرباض بن سارية -رضي الله عنه-، قال: صَلَّى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلاَةَ الصُّبْحِ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا، فَوَعَظَنَا مَوْعِظَةً، وَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ، وَذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! كَأَنَّهَا مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ، فَأَوْصِنَا. قَالَ صلى الله عليه وسلم: (أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ، وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَإِنْ تَأَمَّرَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ، وَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ، فَسَيَرَى اخْتِلاَفًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِى، وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ، فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ). وانتهى إمام وخطيب جامع الخلف بحائل قائلاً: إن لسلامة الفكر أسبابا، من أهمها وأبرزها: الرفقة الصالحة السليمة من الأهواء، والرجوع إلى العلماء المشهود لهم بالبعد عن الشهوات والشبهات، والتمسك بمنهج أهل السنة والجماعة، علما واعتقاداً وعملا. فلنتق الله -أحبتي في الله- ولنحمد الله -جل وعلا-، أن من علينا بسلامة أفكارنا، ولنحذر ممن فسدت أفكارهم، وسلموا عقولهم لغيرهم، ولنعلم يقينا، بأن سلامة الفكر لا تكون إلا بامتثال أمر الله -جل وعلا-، والتمسك بسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وكما قال -جل وعلا-: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا}.
سلامة الأمن الفكري
وتشير الدكتورة دلال بنت سليمان المسلم عضوة هيئة التدريس بجامعة الأميرة نورة بنت عبدالرحمن بالرياض -في بداية حديثها- إلى أن الوطن واجه خلال العقود الثلاثة الماضية أزمة ذات طابع مركب،لكونها أزمة فكر وواقع معًا شملت مختلف المستويات الثقافية والاجتماعية والسياسية، ومثل الفكر أهمية خاصة ضمن هذا الطابع نظرا لدوره المحوري فيها سواء على صعيد خلق الأزمة، أم صياغة سبيل للخروج منها.
وعرضت عدداً من الأمور التي يمكن من خلالها تنقية الفكر من الشوائب منها: الرجوع إلى أصولنا الهادية (الكتاب والسنة) والتمسك بهما تمسكا شديدًا يقول تعالى: (يا يحيى خذ الكتاب بقوة) ويقول أيضًا (والذين يمسكون بالكتاب) حيث نجد فيهما الحل الأمثل في معالجة مشكلاتنا الأخلاقية والعقائدية وحتى السياسية، داعية العلماء والجهات المعنية إلى احتواء مثل هذه الأفكار وجعلها تصب في إطار واحد يخدم الشريعة الإسلامية ويرتقي بالمجتمع، ومشيرة إلى أن معظم المناهج الدراسية قد خلت من برامج لتنمية وتحسين المهارات العقلية لدى الناشئة فيجب الاتجاه إلى تدريبهم على التفكير الواعي المنضبط شرعاً، والقدرة على تشخيص العيوب والأخطاء الفكرية للبعد عنها.
وشددت على أهمية استعمال وسيلة الخبرة ووسائل الاتصال الحديثة في إعمال العقل وتأهيل الفكر، وأن لن نغفل ولن نغلق أعيننا أمام الغزو الفكري القائم والمستهدف به شباب وناشئة الأمة حيث يعيش العالم عصر الفضائيات المفتوحة والتي قد تكون سببًا في هدم القيم والمبادئ العقائدية والثقافية،وهدم السياسات المستقرة في المجتمع، واحتواء فئة الجيل الجديد والتي تظهر عليهم بوادر الانحراف في الفكر، وتحديد حالتهم وتأهيلهم وعلاجهم، وتكثيف الدعاء لهم بأن يهديهم سواء السبيل، مؤكدة أهمية تعزيز الهوية الدينية وبث الثقة في النفس وروح التعاون بين أبناء الجيل وإحساسهم بأنهم يعيشون في كيان واحد مترابط ذلك الجسد الواحد الذي عبر عنه نبينا صلى الله عليه وسلم (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاونهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر).
وقالت: إن بلادنا هي منطلق الدعوة ومهبط الوحي ومنها انتشر الدين الإسلامي إلى مشارق الأرض ومغاربها وهناك سياسات عادلة في حال السلم والحرب امتثلها المسلمون، فحري بأبناء الجيل أن يفخروا بذلك وأن يحملوا لواء العدل والمساواة، مبينة أن صلاح الباطن ينبئ عن صلاح الظاهر حيث يجب غرس العقيدة الصحيحة في النفوس منذ الصغر وغرس المبادئ السليمة حتى ينشأ الشاب عليها ويتضح أثر ذلك على سلوكه.
ودعت الدكتورة دلال المسلم إلى العمل على توظيف مبادئ الإسلام ومنطلقاته الكبرى في تحسين نوعية الحياة الإسلامية والتفكير الرشيد، واستثمار الإمكانات الذهنية لدى النخبة من أهل العلم في حل أهم المشكلات التي يعاني منها الوطن سواء أكان انحرافا فكريا أو تخلفا فكريا، واستثمار الإمكانات المتاحة في البلد سواء مراكز صيفية أو مساجد أو دور تأهيل ورعاية وذلك لتهيئة القدرات الذهنية، وتنمية مهارات الإبداع والتجديد والابتكار لدى أبناء الوطن، وبناء التوجيهات الاجتماعية المواتية وبصفة خاصة لدى فئة الشباب مثل تنمية الانتماء والولاء، وفن المناقشة والحوار،والموضوعية والدقة والانضباط القيمي والسلوكي والمشاركة في خدمة المجتمع.
وأشارت إلى أن حالة التحضر والرفاهية التي يعيشها المجتمع قد زادت من الاهتمام بالتفاصيل والإعراض عن المبادئ والأصول والقضايا الكبرى فانتشر الفكر المذهبي والتعصب مما أدى إلى عدم الاستقرار في الأمن نتيجة ما أصاب الفكر من تلوث وتغيير، وأن مستقبل الأمة واستمرارها رهين باستقرار الأمن الفكري داخلها، داعية إلى ترسيخ العلاقة بين التربية والأمن الفكري لأن التربية تقوي الحس الأخلاقي لدى الإنسان بما يجعله يضبط سلوكه في إطار الأخلاق، والحد من تحكم العاطفة لدى الشباب لأن ذلك قد يؤدي بهم إلى التأزم الفكري وهو عامل سلبي مؤثر في استقرار الأمن الفكري الرشيد.
وخلصت عضو هيئة التدريس بجامعة الأميرة نورة بنت عبدالرحمن إلى القول: إن الأمن الفكري يعد المحور الرئيس في استقرار منظومة الأمن بمفهومه الشامل.. ولقد خلق الله الإنسان وكرمه على سائر المخلوقات حيث منحه عقلاً، وزوده بمبادئ أساسية تكفل له حياة يظللها المن والرخاء، وهذه المبادئ إذا أحسن الإنسان توظيفها ودعمها بالمعارف والخبرات الرشيدة انتقل من حال المحاكاة إلى مقام الابتكار والإبداع، وفي ذلك إجابة لدعوة الله لنا في أكثر من موضع من كتابه سبحانه إلى التفكر والتدبر والتعقل.