كلما بدا لي موضوع لأكتب عنه بدت لي - من جانب آخر - اللغة العربية مُلوِّحة بأردانها، فأستجيب لتلويحها. وكانت مقالاتي الأخيرة عن هذه اللغة الكريمة لغة القرآن الكريم، الذي أنزله الله سبحانه وتعالى، إلى رسوله العربي الأمين بلسان عربي مُبين.
وفي مقالتي - الأسبوع الماضي - اقتباس من كلام لأستاذي الجليل الدكتور عبد العزيز الخويطر - حفظه الله - عن اللغة العربية؛ وذلك في الجزء الرابع والثلاثين من كتابه اللطيف: وَسْم على أديم الزمن « لمحات من الذكريات». ومما ذكره أن المجاهدين عن اللغة العربية وقفوا أمام الأخطاء التي يقع فيها بعض الكُتَّاب؛ قَلُّوا أو كثروا. ومما قاله:
« ومن ذلك وقوفهم أمام جمع «نشاط»، وأن هذه - حسب القاعدة، وما وصلنا من التراث لا تجمع، وإنما يقال: أنواع النشاط المختلفة، أو تعدد أنواع النشاط، ولكن المخالفين أَصَرُّوا على جمعها، فدخلت كلمة «أنشطة» و»نشاطات» و»مناشط». وأخذ الخطأ يغرس طريقه إلى الذهن وإلى اللسان وإلى الأذن. ولا حياة لمن تنادي».
ومضى الدكتور عبد العزيز في حديثه قائلاً: وأُسيء استعمال كلمة «زخم». والمعروف أنها كلمة تصف الرائحة السيئة. فاللحم أزخم أو فسد، وأخذت الكلمة تقوي عضلاتها فتشق طريقها إلى الأذهان، وكأنها صاحبة البيت. وأسوأ تعبير هو قول: الزخم الإسلامي؛ وصفاً لانتشار مبادئ الإسلام. يا لَلهَول!
ويرجو كاتب هذه السطور أن يسمح له القارئ الكريم بأن يضيف إلى ذلك ما يأتي:
- يُعبِّر الآن الكُتَّاب - إلا من ندر منهم - عن وجود شخصٍ ما في مكان مُعيَّن بقولهم: أثناء «تواجده» في الرياض. وهذا خطأ. والصحيح: أثناء «وجوده» في الرياض. ذلك أن كلمة «تواجد» من الوَجْد؛ لا من الوجود. والتواجد- كما قال الشيخ علي الطنطاوي، رحمه الله، منزلة مُعيَّنة لدى الصوفيين.
يقول كثير من الكُتَّاب والمذيعين: «ومن ثُمَّ» بضم الثاء؛ وهو خطأ. والصحيح: ومن ثَمَّ بفتح الثاء بمعنى هنا أو هناك.
- كثيراً ما جمع كُتَّاب ومذيعون كلمة «مدير» بقولهم « مُدراء «. والصحيح مديرون. فلا يقال: اجتمع مدراء المدارس؛ مثلاً؛ بل يقال: اجتمع « مديرو» المدارس. والأمثلة على الأخطاء كثيرة، ومتشعِّبة. على أني أود أن أعود إلى الحديث عن وضع اللغة العربية بعمومها. كنت قد تناولت ذلك في حديث ألقيته في مجمع اللغة العربية بدمشق، الذي أنا عضو مراسل فيه؛ وذلك عام 1424هـ/ 2003م. وكان عنوان الحديث: «اللغة العربية بين الواقع والمأمول»؛ ومما قلته فيه:
من المُسلَّم به لدى الباحثين في أمور المجتمعات والحضارات الإنسانية أن اللغة من أَهمِّ دعائم هُويَّة الأُمَّة إن لم تكن أَهمَّها. ولذلك حرصت الأمم الآخذة بنواصي التَّقدُّم والرُّقيِّ؛ قديماً وحديثاً، على المحافظة على كيان لغاتها، والتمسُّك باستعمالها وحدها؛ كتابة وتحدُّثا. بل إنها حرصت، أيضاً، على الدفاع عنها وعلى نشرها بين أمم ومجتمعات أخرى. ولَعلَّ من أوضح الأمثلة على هذا الحرص ما بذلته - وما زالت تبذله - كلٌ من فرنسا وبريطانيا في هذا المجال. ومن ذلك أن كلاً من هاتين بذلت ما استطاعت لتَحلَّ لغتها مَحلَّ لغات البلدان التي استعمرتها، وحَقَّقت الكثير من النجاح في جهودها إدراكاً منهما بأنَّ فقدان أُمَم تلك البلدان للغاتها وسيلة فَعَّالة لإضعافها؛ إرادةً ومقاومة، وبالتالي إضعافٌ لهُويَّتها وجعلها مُتمسِّكة بِهُويَّة المستعمر لها. ومن ذلك ما تبذله فرنسا من جهود في سبيل ترسيخ الفرانكوفونية، وتكوين لجنة علمية لتدرس بجِدٍّ تَسرُّب بعض الكلمات، أو التعبيرات، من اللغة الإنجليزية إلى اللغة الفرنسية؛ استعمالاً كتابياًّ أو شَفوياًّ، وتُقدِّم اقتراحات مناسبة لِصدِّ ذلك التسرُّب أو التخفيف منه في أَقلِّ الأحوال.
وإذا كان الاهتمام قد بلغ ذلك المستوى بالنسبة للغات حديثة النشأة والتطوُّر نسبياً فكيف لا يكون الاهتمام أَعظم بالنسبة للغة العربية التي لم يَتكدَّر صفو معينها منذ خمسة عشر قرناً؛ إذ ما زال المرء يقرأ ما كُتِب بها، أو يَسمَع ما قِيل بها، في القرن الأول الهجري؛ شعراً ونثراً، فيفهمه حق الفهم. إنها اللغة التي تَمكَّنت، في قرون خلت، من استيعاب حضارات قديمة مُتعدِّدة، وصهرتها في بوتقة واحدة لتُقدِّم إلى الدنيا حضارة عظيمة في مسيرة تاريخ الإنسانية؛ فكراً وثقافة وإبداعاً. بل إنَّ عظمتها لم تقتصر على ذلك - مع أَهمِّيته وجلاله - بل امتدت إلى كونها لغة المصدرين الأساسين لدين أُمَّتنا المسلمة؛ عرباً وغير عرب.
وفي أقطار المشرق العربي - كما في مصر والسودان - حَدثت نهضة علمية لا بأس بها. وكانت اللغة العربية عماد هذه النهضة؛ إذ كانت هي لغة التدريس. وكان لانتشار التعليم وللسياسة الحكيمة في جعل لغة التعليم هي اللغة العربية أثره الإيجابي الواضح. ومع أن أصواتاً شاذة انطلقت هنا وهناك لكتابة العربية بحروف لاتينية، أو للكتابة باللهجات الدارجة، فإن تلك الأصوات مُنِيت بالفشل.
وفي الجزائر بالذات - وهي القطر الذي كان المستعمر الفرنسي يَعدُّه جزءاً من فرنسا، وبذل ما استطاع لطمس هُويَّته العربية - كانت نشوة الاستقلال، الذي لم يُنَل إلا بتضحيات جُلَّى، من العوامل التي أوحت للزعامة الوطنية هناك، بقيادة أبو مدين رحمه الله، تَتبنَّى سياسة التعريب التي كان في طليعة واضعي خميرتها ابن باديس رحمه الله. ولقد آتت تلك السياسة ثمارها المرجوة بدرجة كبيرة. ومما هو جدير بالذكر أن من الجزائريين المنحدرين من أصول غير عربية من هم في طليعة المُتحمِّسين للغة العربية. وإذا كان ابن باديس مثلاً لرعيل الروَّاد في هذا المجال فإن عثمان سعدي من الرعيل الحاضر الآن؛ إذ هو رئيس هيئة الدفاع عن اللغة العربية. وهذا مما يُوضِّح العلاقة التلازمية الوطيدة بين اللغة العربية والدين الإسلامي الذي جاءت أحكامه بهذه اللغة. وفي المملكة المغربية توجد الآن جمعية حماية اللغة العربية؛ ورئيسها الأستاذ موسى الشامي.
وماذا عن أقطار المشرق العربي؟
كل عربي منصف لا يملك إلا أن يُعـبِّر عن تقديره الأوفى لسورية؛ قيادة وشعباً، لما يَتجلَّى في ربوعها من مظاهر الاحترام للغة أُمَّتنا.. اللغة العربية. ومن هذه المظاهر استخدام كلمات عربية لكثير من المخترعات الحديثة، التي لم تحاول أقطار عربية عديدة استخدامها بهذه الكلمات؛ بل راحت تستخدمها وفق لغات مخترعيها. والأَهمُّ من ذلك هو استعمال اللغة العربية لغة تدريس في جميع مراحل التعليم وفي مختلف فروع المعرفة. ولم يكن هذا الموقف المُوفَّق والسديد ناتجاً عن تَمسُّك بدعائم الهُويَّة فحسب - مع الأَهمِّية البالغة لهذا التمسُّك - بل لأن استيعاب المُتلقِّي باللغة الأُم أعظم من استيعابه بلغة غيرها أيضاً. وهذا أمر يَّتفق عليه العلماء وتؤكِّده اليونسكو. واستعمالها العربية لغة تدريس لم يمنعها من تعليم اللغات الأخرى في مؤسساتها التعليمية توسيعاً لثقافة مواطنيها وإثراء لمعرفتهم. على أن تَجلِّي ما يَتجلَّى في هذا القطر العربي من تلك المظاهر المُقدَّرة كلَّ التقدير ليس بمستغرب. أليست سورية قلب العروبة النابض؟ ألم يكن تعريب الدواوين قد رأى النور- أوَّل مرَّة- قبل أربعة عشر قرناً على ربوعها؟ وألم يكن سك العملة بالعربية قد حدث - أوَّل مرَّة - في هذه الربوع؟.