في قراءة لمصادر الدخل الحكومي مع كل ميزانية يظهر جلياً استمرار العجز في تحقيق تنويع مصادر الدخل رغم ما أُعلن من جهود وإجراءات لتعزيز التنويع حيث لا تزال نسبة الإيرادات النفطية تمثل الجزء الأكبر من إجمالي إيرادات الدولة وهو ما تكرر في تقديرات وزارة المالية لميزانية 2013 بتجاوز حجم الإيرادات الفعلية 1.131تريليون ريال وإن نسبة 90% هي إيرادات نفطية في حين مثل الباقي مصادر أخرى. وقال الخبير الاقتصادي والنفطي الدكتور راشد أبانمي: إنه ومع نهاية كل عام تتجه الأنظار في المملكة نحو الإعلان عن ميزانية العام الجديد، وتتزايد الآمال والتطلعات وما تسفر عنه قرب إعلان الميزانية من تحقيق الكثير من المطالب، سواء الخدماتية أو الوظيفية أو السكنية، ومن خلال الإنفاق على المشاريع الخدمية والتنموية التي يحتاج إليها المواطن في جميع مناطق المملكة. وميزانية2014م ليست مستثناة من ذلك. ويضيف بأن أهمية الميزانية العامة تكمن في عنصرين أساسيين، وهما الإنفاق الحكومي (المصروفات) والتي تمثل المحرك الأساسي للاقتصاد السعودي، والعنصر الآخر (الإيرادات) وهي قائمة على النفط والذي يمثل نحو90% من الإيرادات، مما يعني أن تقدير واردات الميزانية تعتمد بشكل أساسي على أسعار البترول المتوقعة، والتي تتميز بحساسيتها المفرطة نظرا للتقلبات في العرض والطلب في الأسواق العالمية. فالمملكة تمثل الركيزة والضامن للأسواق النفطية، وبإعلان الميزانية فإنها تشكل بالنسبة للسعوديين رسم مسارهم المالي للعام الجديد، والميزانية بالطبع مرسومة بمسار النفط وأسعاره، لذلك تضع المملكة أسعاراً تقديرية للنفط منخفضة نوعاً ما، ويكون عند الحد الذي يفي بمواردها المالية للعام الجديد، وما يرد من فوائض مالية محتملة، يذهب لتسديد الدين العام وكذلك فائض احتياطي.
استبعاد حدوث عجز في ميزان المدفوعات
ويقول أبانمي: إن الميزانية السعودية تبنى عند السعر الأدنى المتحفظ، وبالرغم من أنه يتم الإعلان عن هذا السعر ويستقرأ من تقديرات الواردات، إلا أنه لا يتبنى رسمياً لكي لا يؤثر على الأسواق، وفي العادة يكون السعر متحفظا، وكان بحدود 75 دولاراً للبرميل لميزانية 2013م، قياسا بأسعار السوق التي وصلت أكثر من المائة دولار للبرميل، وهو السعر التي تستهدفه السعودية كسعر عادل للمنتجين والمستهلكين. مشيراً إلى أن المملكة قد نجحت خلال الأعوام الماضية وبالتحديد منذ 2003م في تجنيب الميزانية أي تقلبات سعرية في أسواق النفط (باستثناء 2009م وما أفرزته الأزمة المالية العالمية غير المتوقعة)، نظراً لوضع سعر متحفظ للبترول، مما جعل المملكة قادرة على تخفيض الدين العام وكذلك بناء احتياطي كبير لتعزيز استقرار إيرادات الميزانيات المقبلة. والمملكة الآن في منأى إلى حد كبير عن حدوث أي عجز محتمل في ميزان المدفوعات قد يجعلها تلجأ إلى الاستدانة على المدى القصير، وذلك نتيجة لفوائض الأعوام الماضية في حالة انخفاض الواردات لعدد من السنين. (الخمس السنوات المقبلة).
وحول العلاقة بين مستويات الإنفاق الحكومي وأسعار النفط وإيراداته قال أبانمي: بأنها وثيقة جداً وبما أن أسعار البترول عرضة للتقلبات فإن ذلك يعني أن أي تراجع في الأسعار لسنوات سيؤثر في العائدات وبالتالي ستؤثر سلبيا في السياسة الاقتصادية السعودية، وربما تعرضها إلى مشكلات قد تتطور إلى كوارث اقتصادية على المدى المتوسط. أما فيما يخص ميزانية 2014م، فتم تقدير الإيرادات بـ855 مليار ريال والنفقات العامة بـ855 مليار ريال، وانخفضت المصروفات المقدرة لـ2014 عن تلك التي تم إنفاقها فعليا لعام 2013 بـ70 مليار ريال. وتابع أبانمي: مشكلة الاقتصاد الريعي هو أن مصدر الدخل الواحد يكون عرضة للتقلبات، وتظهر فوارق في الحساب الختامي للميزانية عن المبالغ المرصودة، وذلك بعكس الدول التي تعتمد في دخلها على الاقتصاديات المتنوعة والضرائب والرسوم والتي على ضوئها تستطيع أن تحدد ميزانياتها بدقة عالية. فالحساب الختامي للميزانية 2013 حقق فائضا هذا العام بسبب ثبات الأسعار عند مستويات مرتفعة طيلة العام أي في حدود المائة دولار للبرميل، أي بفارق خمسة وعشرين دولاراً من المتوقع في الميزانية إضافة إلى ارتفاع مستويات الإنتاج التي كانت عند مستوى 9.3برميل يوميا، بينما كان متوقع مستوى الإنتاج ثمانية ملايين برميل يومياً.
تحقيق قفزة نوعية في تنويع مصادر الدخل
ورأى أبانمي أن المملكة منذ 1970م إلى الآن لم تحقق أي تقدم في مجال التنويع وتحقيق قفزة نوعية في هذا المضمار يوجب تكوين علاقة وثيقة ومرتبطة شكلاً ومضموناً بين الخطط الخمسية والميزانيات العامة السنوية، وذلك بتغيير النهج في إعداد الميزانية التي هي حالياً تتخذ من النظام المحاسبي أي الواردات المتوقعة والمصروفات والتي تعتمد على البنود، مما يصعب حصر النفقات أو المصروفات بشكل دقيق وواضح، كونها مرنة في انتقال المخصصات من بند معين لبند آخر، كما هي في الأمور المحاسبية الصرفة، والعمل على تحويل منهج الميزانية العامة تلك من النظام المحاسبي الصرف إلى النظام الاقتصادي، وهو السائد في العديد من الدول الغربية، وبالتالي ربط الخطط الخمسية مع الميزانية العامة، وعمل برامج لكل وزارة وجهاز حكومي، ولكل برنامج مخصص معين معلن عنه، وفي نهاية العام يتم رصد كل برنامج وما تم إنجازه فيه أو ما لم يتم. ويقول: بالتالي يتم رصد مخصصه وما تم صرفه فيه وما لم يتم. وهذا بالطبع يتطلب العمل على تقوية العلاقة العضوية في إصدار الميزانية العامة بين الثلاثة الأجهزة المعنية وهي المجلس الاقتصادي الأعلى ووزارة المالية ووزارة التخطيط والاقتصاد مما يعني تغيرات جذرية في الذهنية البيروقراطية وكذلك في العديد من القطاعات والوزارات والوظائف، وتغيير الذهنية التقليدية لكي نستطيع التماشي مع النظام الجديد، وهو بالطبع يحتاج لوقت طويل في عملية الإحلال والتغيير للنظام الاقتصادي في الميزانيات، ولكنه يبدو المخرج الوحيد لتحقيق الأهداف والطموحات التي رسمناها لأنفسنا منذ ما يزيد على أربعين سنة في الخطة الخمسية الأولى والتي لم تتحقق إلى الآن.
بناء اقتصاد متكامل مستقل عن الدخل النفطي
إلى ذلك قال نائب رئيس شركة أرامكو سابقا عثمان الخويطر: مضى ما يزيد على أربعين عامًا ونحن نخطط لتنويع مصادر الدخل، الذي يعتمد منذ عشرات السنين على المداخيل النفطية. ونحن نعلم أننا كلما مرت السنون والأعوام كلما اقتربنا من نهاية عصر النفط الذي كان ولا يزال يمدنا بالدخل المالي الوفير. ويجب ان نهتم بعملية بناء اقتصاد متكامل مستقل عن الدخل النفطي قبل أن تظهر بوادر النضوب. وأضاف: لم تنجح جهودنا خلال أربعة عقود في تنويع الدخل لأننا اخترنا طريقًا سهلاً للحصول على المال، وفي الوقت نفسه، اتبعنا منذ الثمانينات سياسة كان الهدف منها حماية السوق النفطية من التقلبات السعرية. ولكن ذلك أدى بنا إلى استنزاف أكبر كمية ممكنة من مخزوننا النفطي تبعًا لمتطلبات السوق النفطية، بصرف النظر عن متطلبات مستقبلنا. فارتفع دخلنا إلى مستويات قياسية فاضت بقدر كبير عن مجموع ما تحتاجه الميزانية العامة وبرامج التنمية المحلية. وحتى الفوائض المالية لم نحسن استثمارها في مشاريع إنتاجية لصالح استقلالية الدخل عن النفط وخلق وظائف للمواطنين. ولا بد للاستثمار الناجح من مشاركة المال العام المتمثل بتلك الفوائض مع القطاع الخاص الأكثر كفاءة في إدارة المشاريع التنموية. وأضاف الخويطر: لم ننشئ بيئة مناسبة لإضافة دخل جديد يتطلب مجهودات ضخمة وتضحيات كبيرة من قِبَل شعب تعيش الأكثرية منه في رخاء ورفاهية بدون تعب ولا نصب، رغم خطورة العواقب التي تنتظرنا عن نهاية الطفرة النفطية ورأى أن الحل يكمن في تغيير اتجاه بوصلة سياسة الإنتاج النفطي، ومحاولة تقليص كميات الإنتاج من أجل الحفاظ على ثروتنا الناضبة. ونجعل مقدار الدخل المطلوب للميزانية هو الذي يحدد كمية الإنتاج. على أساس أن لا يتحمل دخل النفط في المراحل الأولى أكثر من 75% من الميزانية، ثم تنخفض النسبة بعد عدة سنوات إلى 50%. وباقي الدخل يأتي من برامج الاستثمار في التنويع الذي فشلنا في تحقيقه على مدى الأربعين عاما الماضية. ومضى الخويطر: بدون نوع من التقشف وتحديد الإنفاق الحكومي لن نستطيع أن نخلق شعبًا يتوق إلى العمل والإنتاج. وكما يقولون، الحاجة أم الاختراع. أما التخمة والرفاه فلا ينتجان إلا الكسل والخمول. ومن الأسباب غير المباشرة التي لا تساعد على العمل والإنتاج، إسرافنا في استقدام ملايين العمالة الوافدة التي أصبحت تسيطر على ساحة تجارة التجزئة وممارسة جميع الأعمال الحرفية، مما زامن صعوبة منافسة شبابنا للأيدي الأجنبية الرخيصة.