بعد مقتل القذافي وتنفيذ حكم الإعدام في صدام حسين انتشرت أسئلة الناس عن حكم الترحُّم على الظالم، واختلف المفتون في الأمر، قال بعضهم لا يجوز الترحم على الظالم، بينما أفتى آخرون بجواز الترحم عليهم لأنهم كانوا مسلمين، ولم يعلنوا كفراً بواحاً من المنابر، وبعد وفاة الزعيم الإصلاحي والتاريخي نيلسون مانديلا أيضاً ظهرت أسئلة في برامج الفتاوى عن حكم الترحم على روحه، وكان الإجابة أنها لا تجوز، لأنه كان كافراً بالدين الإسلامي، ولن ينفعه الدعاء في يوم الحساب.
سيظل أمر هؤلاء جميعاً الظالم منهم والكافر عند الله - عز وجل - ولن تنفعهم تدخلات البشر في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون ولا وسيط، لكن المرء يتوقف عند تلك المقولة الشهيرة التي تعد مؤخراً من أكثر الأقوال ترديداً على ألسنة المسلمين: (إن الله ينصر الدولة العادلة، وإن كانت كافرة، ولا ينصر الدولة الظالمة، وإن كانت مؤمنة) كما روي في الفتاوى عن ابن تيمية وغيره - رحمهم الله - وعلى الرغم من أن تلك المقولة ليست من الدين الصريح، إلا أنها تعد من الأثر الذي توصل إليه المسلمون لتبرير أسباب هزائمهم الحضارية أمام أعدائهم الكفار المتفوقين، وأن أحكام الله في الأرض تخضع لسنن الرشد وعلاقات العدل والظلم، وليس لمبادئ الكفر والإيمان فقط.
ناضل زعيم جنوب إفريقيا نيلسون مانديلا من أجل إخراج بلاده من طور الظلم والتعسف والعنصرية إلى أطوار الدولة المدنية والديمقراطية التي تخضع للقوانين العصرية، وقاد بلاده إلى الخروج من البؤس عندما قدم التسامح على الانتقام، وعندما عزز الكرامة الإنسانية على الذل والخنوع والتفرقة الطبقية، وقد نصره الله في مسعاه لاحقاً حين حكم الزعيم الإفريقي الراشد بالعدل والعفة، وحين عمل من أجل رفعة قومه، بينما كان الخسران والسقوط نتيجة لأعمال بعض أئمة المسلمين عندما حكموا بالظلم والجور.. فهل نحتاج بعد ذلك إلى دليل على أن السلوك والأخلاق وإقامة العدل جوهر الدين وأسباب انتصاره، وأن الحضارة والانتصار لها مقومات وسنن لا تتبدل.
في المقولة الشهيرة انتصار للفكر الإنساني عند المسلمين، واعتراف بأن الله - عز وجل - يحكم الكون بمختلف أطيافه، وأنه ينتصر للكافر عندما يحكم بالعدل، وقد ورد في الأثر النبوي أن المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف، والقوة لا تعني هنا إرهاب الناس وقهرهم بالقمع، لكن القوة تعني تحقيق العدل والمساواة واحترام القانون والشرائع إن هم أرادوا النصر من الله، وقد حاول البعض أن يغيِّر من ذلك المفهوم السامي إلى الدعوة إلى الملاحم الدموية وقتل المسالمين بحد السكين أمام الملأ، وقد يجدون بعض الأثر لتبرير تلك الأفعال الوحشية، ومنها الأمر بقتال الكفار وإجبارهم على دفع الجزية، وهو ما يجعل من مهمة فقهاء السياسة الشرعية في موقف صعب لتفسير أو تأويل تلك النصوص في مواجهة معارضة تلك المقولة الشهيرة.
لم ينفع انتشار التكايا ونشر الزوايا الصوفية في منع سقوط الإمبراطورية العثمانية بعد أن فشلت في الأخذ بأسباب القوه الحقيقية في الدولة الحديثة، ولم تساعد كثرة الأدعية لها في المنابر والتكايا من أن لا يسقطها الله - عز وجل - لأنها كانت تقوم على الظلم في أيامها الأخيرة، ولأنها ببساطه خالفت نواميس الكون الطبيعية التي خلقها الله - عز وجل - واستغلت جهل العامة في التسلط عليهم من خلال التبرك والتوسل وغيرها من وسائل الضعفاء والمهزومين.
في ذلك دليل على أن كثرة الوعظ وازدحام الحياة بمشائخ الدين لن تشفع لعدم استجابة الناس والدول لسنن الله إن خالفوا السنن الكونية التي أرساها - عز وجل - على وجه الأرض، كما لن تنفع حلقات الذكر والتبرك بالأدعية والنواح والبكاء فقط في الوصول إلى حالة الانتصار إن لم يصحبها الأخذ بأسبابه الكونية واحترام قوانين الطبيعة، ولكن قبل ذلك قد نحتاج إلى أن ندرس ظواهر العدل في الدنيا، وهل ما يحدث في الغرب في الوقت المعاصر من انتصار، له علاقة بإقامة حقوق الإنسان واحترام اختياراته، والمساواة بين فئاته، مهما اختلفت أديانهم وأعراقهم، أم أن شروط نصرة الله - عز وجل - لا تزال غامضةً عند أمة المسلمين.