ميزانية المملكة.. رسالة تفاؤل سعودية في اقتصاد عالمي يموج بالاضطراب
أُعلن تفاصيل أكبر ميزانية في تاريخ المملكة العربية السعودية، وأصبحنا في كل عام نرى أرقاماً تاريخية تفوق السنة التي قبلها، وجاء إعلان ميزانية الدولة للعام المالي المقبل 2014, وكذلك بيانات ميزانية 2013 لتؤكد على أن عهد الرخاء والإصلاح الاقتصادي في ظل قيادة خادم الحرمين الشريفين - قائد مسيرة الإصلاح الاقتصادي - هو عهد القيادة الاقتصادية السعودية على جميع المستويات، وجاءت تفاصيل الميزانية حافلة بالكثير من المؤشرات الاقتصادية المعنوية لتعبر عن ثبات الدولة واقتصادها في ظل ترنح الاقتصاد العالمي تحت وطأة الأزمة، وأتت الأرقام لتؤكد أننا بالفعل الدولة الأكثر أماناً اقتصادياً واستثمارياً.
وتأتي الميزانية لتؤكد أن مشاركة المملكة في قمة العشرين هي نتيجة حتمية لثقلها الاقتصادي وإدارتها الحكيمة التي كانت وما زالت تعمل لتنعم المملكة في الرخاء بينما يعاني الآخرون في الشدة.. ولا أبالغ إذا قلت إن الميزانية هي أهم رسالة عالمية لبث بعض الاطمئنان بأن الاقتصاد العالمي يملك لاعبين يستطيعون إرساء التوازن وبث الأخبار الإيجابية في ظل سيل عرمرم من الأخبار السلبية وفي ظل مخاوف وأسئلة عن ما يحدث حولنا من مؤشرات تبعث على التخوف مما يحمله العالم الاقتصادي من أخبار قد تؤثر على روح التفاؤل السائد منذ بداية أسوأ أزمة اقتصادية عرفها التاريخ العالمي، وتأتي ميزانية الخير في وقت تئن دول كثيرة تحت مخاوف وتأثير وآثار الديون السيادية التي جرت وما زالت تجر تلك الدول إلى طريق مجهول.. وفي وقت أصبحت أكبر كتلة اقتصادية عالمية تعاني تبعات أزمة الديون السيادية وأصبح اليورو في مهب الريح بعد أن كان في يوم من الأيام عنوان الأمان.
وتأتي هذه الميزانية في ظل الأزمات السياسية المتلاحقة في المنطقة، لتعطي رسالة حقيقية عن الترابط والتلاحم الوطني, ولتؤكد أن بناء هذا الوطن على أسس صلبة هو تاريخ مجيد وحاضر زاهر ومستقبل مشرق - بإذن الله -.
والعوامل المهمة في حسابات الميزانية تأتي على جانبين، الأول هو الإيرادات، وتعني متوسط سعر برميل النفط وحسابه المتوقع عند إعلان الميزانية، الشق الثاني يأتي على المصروفات وما يطرأ عليها من تطورات كالأوامر الملكية أو الأحداث غير المتوقعة وتستدعي التدخل الحكومي المالي.. وتتفق أكثر التقارير الاقتصادية أن المملكة بنت تقديراتها عند إعداد الميزانية للعام 2013م على أسعار نفط تتراوح بين 50 و55 دولاراً للبرميل.
ومن المتوقع أن يبلغ الناتج المحلي الإجمالي هذا العام 1434/1435 (2013م) وفقاً لتقديرات مصلحة الإحصاءات العامة والمعلومات (2.794) تريليون ريال بالأسعار الجارية بزيادة نسبتها (54.1) بالمائة عن المتحقق بالعام المالي الماضي 1433/1434هـ (2012م) وجاء الارتفاع من وجهة نظري في الضوء المتوقع قياساً بالانخفاض الطفيف في أسعار النفط للعام 2013.
وبالعودة إلى أرقام ميزانية عام 2013 فإن الإيرادات الفعلية بلغت 1131 مليار ريال في حين كانت تقدر بمبلغ 829 مليار ريال في بداية العام, أي أنها حققت زيادة قدرها 302 مليار ريال وهو رقم أقل مما تحقق في العام الماضي 2012 والذي قدر حينها بـ 537 مليار ريال ورغم ذلك فإننا ما زلنا نرى زيادة مستمرة في الإيرادات الفعلية مقارنة بما يتم رصده في بداية العام وإن كانت أسعار النفط قد انخفضت عن معدلاتها للعام الماضي، وإن كانت المملكة تعلن دائماً عن رؤيتها للسعر العادل أن سعر البرميل بين 70 و80 دولاراً للبرميل، وهو أعلى ما حققته الأسعار خلال العام الماضي.
وطبيعة الأحداث السياسية حول العالم حافظت على ذلك المستوى غير المتوقع لأسعار النفط.. ورغم ذلك فإن الدولة دائماً ما تضع توقعات متحفظة في الميزانيات السنوية حتى ونحن نرى توقعات العام 2014 فإن التحفظ سيكون مصاحباً بشكل مستمر لتوقعات الدولة لأسعار النفط، بغض النظر عن أي تفاؤل يحيط بنمو الاقتصاد العالمي خلال العام القادم أو تحسن الظروف السياسية.
من جهة أخرى, ارتفعت المصروفات إلى 925 مليار ريال وهو رقم أكبر من المصروفات الفعلية للعام الماضي 2012 بحوالي 72 ملياراً وبزيادة معقولة قدرها 13 بالمائة فقط عما تم رصده في بداية العام مقارنة بالزيادة في المصروفات في العام 2012 والتي قدرت نسبة الزيادة فيها بأكثر من 25 بالمائة، وهذا الارتفاع جاء على شكل إنفاق حكومي موجه بشكل كبير تجاه المواطن بعكس الزيادات السابقة التي كانت موجهة إلى مشاريع.. وهنا يجدر التركيز على أن الإنفاق الحكومي استمر بوتيرة عالية على رغم المخاوف الاقتصادية العالمية من عام 2013 على الرغم من التخوف الكبير الذي ظهر خلال ذلك العام سواء على مستوى الاقتصاد العالمي أو حتى على مستوى الاستقرار السياسي في المنطقة, ورغم جميع تلك الظروف إلا أن المملكة حافظت على مستوى الإنفاق الحكومي المتزايد بشكل سنوي ونراه في جميع قطاعات الميزانية.
ولعل المفارقة في ميزانية عام 2013 هي أنه رغم كل ما ذكر عن السوداوية التي تحيط بالأوضاع الاقتصادية العالمية، إلا أن الميزانية ما زالت تحقق فوائض تاريخية بحوالي 206 مليارات ريال، وهو أقل فائض تحققه الميزانية خلال السنوات الخمس الماضية، على الرغم من استمرار وتيرة الإنفاق على المشاريع الحكومية الزيادة في المصروفات ولعل أهمها الزيادة في الصرف على الأعمال التنفيذية المتعلقة بمشروع خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز لتوسعة المسجد الحرام واستكمال تعويضات نزع ملكية العقارات وتوسعة المسجد النبوي الشريف، والزيادة في الصرف على بعض المشاريع التنموية والخدمية الأُخرى.
ولعل استمرار الإيجابية في ميزانية عام 2013 يأتي من انخفاض الدين العام إلى ما يقارب مليار مليار ريال أي بنسبة قدرها 2,7 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي، وهذا بلا شك مؤشر اقتصادي مهم يدل على الرفاء الاقتصادي الذي تعيشه المملكة ويُؤكد على أنه حتى في حال - لا قدر الله - وجود أي خلل في الإيرادات المستقبلية فإن الدين العام لا يشكل عبئاً اقتصادياً إضافياً، وهذا يوضح أن هناك تعاملاً منطقياً للمحافظة على مستويات مقبولة للدين العام
وعدم الدخول في مخاطر تضخمية ناتجة عن تخفيضه بنسب كبيرة.
ميزانية 2014
اعتلنت الدولة عن تقديراتها لإيرادات العام 2014 بما قيمته 855 مليار ريال أي بزيادة قدرها 26 ملياراً عما تم رصده لعام 2013 والتي قدرت حينها بـ 829 مليار ريال، وهي ميزانية متحفظة تعطي قدراً أعلى من التفاؤل حول معطيات الاقتصاد العالمي، خصوصاً وأن المملكة استطاعت الوصول إلى سعرها العادل لسعر برميل البترول، ولعل تلك السياسة تعطي قدرة أكبر للمسؤولين على وضع تصور أكثر دقة عما تعارفت عليه الميزانيات السابقة من حيث التحفظ الكبير على الإيرادات خصوصاً النفطية.
ولعلي هنا أركز بشكل موجز على المصروفات المتوقعة والتي تعطي جميع الدلالات على الاستثمار الكبير الذي توليه الدولة للمواطن بالدرجة الأولى على الرغم من الظروف الاقتصادية التي تمر بها موارد الدولة ونجد أن الكثير من المخصصات تمس حياة المواطن بشكل مباشر حتى في ظل الأزمات العالمية وتسريح الموظفين وإفلاس المصارف والشركات حتى وصلنا إلى إفلاس الدول ومخاوف الديون السيادية في الاتحاد الأوربي تحديداً، تبقى المملكة العربية السعودية في إنفاقها على رفاء المواطن وترسل رسالة واضحة للعالم أنها ما زالت تتمتع برخاء اقتصادي وبقوة شرائية قوية في ظل تحقيق فائض في الميزانية ليضاف إلى العوائد التاريخية التى حققتها الميزانية خلال الفترة من 2002 إلى 2013، وتظهر الأرقام أن النفقات العامة التي حددتها الدولة للعام القادم تبلغ 855 مليار ريال أي بزيادة قدرها 35 مليار ريال عما أقر لميزانية العام الماضي التي حددت بـ 820 مليار ريال أي بزيادة قدرها 3 بالمائة وتقل بحولي 70 ملياراً عن المصروفات الفعلية خلال العام 2013.. ولا شك أن هذه المبالغ تعتبر إشارة كبيرة على استمرار الإنفاق الحكومي بمعدلات تاريخية وإن اختلف التركيز في القطاعات إلا أنها تصب في نهاية المطاف في المصلحة العامة للوطن والمواطن.
وبنظرة موجزة إلى بعض القطاعات التي ركزت عليها الميزانية فإن قطاع التعليم بالإضافة إلى مشروع الملك عبد الله بن عبد العزيز لتطوير التعليم «تطوير» بمبلغ 9 مليارات ريال وكامل ما تم تخصيصه لقطاع التعليم بمبلغ إجمالي قدره 210 مليارات ريال أي بزيادة قدرها 3 بالمائة عما خصص العام 2013, ولعل هذه الأرقام تثبت اهتمام الدولة كما سبق أن ذكرنا بالكادر البشري السعودي وتطوير وإعادة تطوير البنية التحتية للتعليم بهدف الوصول بالعنصر البشري السعودي إلى المستويات التي تتناسب مع البعد الاقتصادي للمملكة ومع الحاجة التي يتطلبها سوق العمل في المملكة، ولا شك أن التعليم هو حجر الأساس لخطط التنمية المستقبلية الذي توليه حكومة خادم الحرمين الشريفين الكثير من الأهمية وتوفير البيئة المناسبة له وزيادة الطاقة الاستيعابية للمدارس والجامعات والكليات المتخصصة وتوفير أفضل الوسائل العلمية الحديثة لتوفير المناخ المناسب لمستقبل المملكة التنموي.. ولعل الشواهد التي نراها من افتتاح العديد من الجامعات الجديدة ولذلك فلا عجب أن يستحوذ التعليم على نصيب الأسد من الميزانية بمقدر 25 بالمائة وهو نفس المعدل في الميزانيات السابقة، وهو استثمار في مستقبل هذا الوطن.
أما الخدمات الصحية والتنمية الاجتماعية فبلغ نصيب هذا القطاع من ميزانية العام المقبل ما قيمته 108 مليارات ريال أي بزيادة قدرها 3 بالمائة عما تم تخصيصه في العام الماضي 2013.
إن الشكل المرفق يوضح أن جميع القطاعات في الدولة حظيت وتحظي بدعم كبير في ميزانية العام المقبل، امتداداً لتطوير القطاعات التي تهم المواطن بالدرجة الأولى التي تمس حياته اليومية، ولذلك فإن الزيادة عندما تأتي في ظل التخوف من ركود الاقتصاد العالمي تعطي مؤشرات مضاعفة على اهتمام الدول بالنمو والرفاء للمواطنين.. وإن كانت نسبة الزيادة في جميع القطاعات تقل عن نسبة الزيادة في الأعوام الماضية إلا أنه يجدر بنا التأكيد على أن المخصصات التي دفعتها ميزانيات الأعوام السابقة ما زالت تعمل في جميع القطاعات المذكورة أعلاه.
في الختام فإن ميزانية هذا العام تختلف من ناحية التوقيت عن أي ميزانية سابقة في تاريخ المملكة، فالإعلان يأتي متزامن مع عواصف سياسية كبيرة تهب على المنطقة والعالم في حين تنعم هذه البلاد بالأمن والأمان والرخاء الاقتصادي المستمر، ليس هذا فحسب بل إن الميزانية تأتي وسط تجاذبات اقتصادية مهمة على مستوى الاقتصاد العالمي ولا يزال الحديث متزايداً حول مستقبل الاقتصاد العالمي وعن تداعيات بعض الأحداث الاقتصادية المحيطة. وتأتي بعد أن أثبت الاقتصاد السعودي متانة عالية في القطاع المالي بشكل عام والقطاع البنكي بشكل خاص، وهذه المتانة تأتي من خلال التشريعات المتحفظة التي حافظت على المكاسب.. ولعل المفرح أن تكون المملكة قادرة - بعد توفيق الله - على القدرة على ضبط الميزانية من خلال حسن التوقع وحسن التخطيط والمحافظة على سوقها الأساسي وهو سعر برميل البترول.. والأهم من وجهة نظري أنها جاءت في وقت أثبتت المملكة للعالم أن التماسك واللحمة الوطنية ظهرت بشكل واضح وكبير خلال العام 2013.