في الرحلة الأولى إلى مصر، كان يشغلني همَّان:- هم الدراسة، وهم تحرير المسائل الأدبية، وتأصيل المعارف النقدية المكتسبة من القراءة والمخالطة. كان الأدبُ المصريُّ مهيمناً على كل الآداب العربية، وكان المؤلفون والمدرسون المصريون حين يحاضرون أو يكتبون عن الأدب المصري يعدون ذلك كلَّه عن الأدب العربي، وكأنهم سَلموا وسُلِّم لهم ألَّا أدب إلَّا الأدب المصري،
وكنَّا في مدارسنا ومعاهدنا وجامعاتنا نعيش في ظل هذا المفهوم، ولا أحد يستطيع التساؤل عن أدب بلاده، فضلاً عن الآداب العربية في الشام أو في العراق أو في المغرب العربي.
وحين جِئْتُ متعاوناً مع فرع [جامعة الإمام في القصيم] لم أجد إلا كتاباً لـ[الدسوقي] تفيض به مستودعات الكتب في الكليَّة ويوزع بسخاء ومجانية. يتحدث فيه مُؤلِّفه عن الأدب المصري، بوصفه أدباً عربياً، يقوم مقام ما سواه من الآداب العربية، وكنا نعد ذلك عين الصواب، ونُسَلِّم له، ولا نجد فيه جوراً على سائر الآداب العربية. ومن ثم كنا نعرف تفاصيل حياة الشعراء المصريين، وقد لا نعرف أسماء من سواهم من شعراء بلادنا، ولم آت يَوْمَئذ إلا لإعطاء محاضرات عن الأدب العربي في المملكة العربية السعودية، حيث اعتذر الأستاذ [السوداني] الذي كان يُدَرِّس الأدب الحديث عن تدريس الأدب السعودي، لإنه يجهله، وحين ألحَّتْ عليه العمادة، أنكر أن يكون هناك أدبٌ سعودي.
وكنت قد قَدَّمْتُ رسالة الماجستير عن [اتجاهات الشعر المعاصر في نجد] وهو أول كتاب أكتبه، وثاني كتاب أطبعه، بعد كتابي [حاتم الطائي بين أسطورة الكرم وحقيقة الشعر] وهي محاضرة أُلْقِيَتْ في [حائل] قبل أربعة عقود بدعوة من رئيس مكتب الرعاية المتألق [عبدالعزيز القشعمي]، ثم توسعتُ فيها، وأضَفْتُ إليها، ونشرها [مكتب الرعاية] هناك. ولست أدري ماذا فعل الله به، إذ طبع ووزع في حينهْ. وكم تمنيت لو وَقعت في يدي نسخةٌ منه، لأعرف كيف كان مبلغي إذْ ذاك.
ولأن الأدب السعودي غائبٌ عن المشاهد، كأي أدب عربي، إلا الأدب المصري، فقد بهر المصريين كتاب [شعراء نجد المعاصرون] للأستاذ [عبدالله بن ادريس] حين وصل إليهم، مع أنه كتاب تراجم ومختارات.
وأول المسائل تحريراً، وأول المعارف تأصيلاً قراءة تاريخ المدرستين المهيمنتين :-[الديوان] و[أبولو] ونتائجهما، وأسباب نشوئهما، ومحاكاتهما في الحجاز، واستنساخ معاركهما، إذْ تَلَقَّى رايتيهما[العطار] و[العواد] و[الفلالي] و[القرشي]. وقاربهما على حذر [الزمخشري] و[سرحان] و[شحاته]. أما المستبدون فـ[الصبان] و[الفقي] فيما لزم المحافظة [الغزاوي] و[عارف]. وخالطهم في عُقْر دارهم مُهاجرون، كـ[الفلالي] و[شحاته] و[عبد الجبار]. والفلالي قَلَّد الديوان بكتابه [المرصاد] الذي تَصَدَّى له بالنقد كل من [عبدالله عبدالجبار] و[حسن القرشي]. ومثلما لم يَصْدق السياسيون في الحديث عن البدايات الهمجية لـ[الثورة الفرنسية] فإن مؤرخي الأدب الحديث لم يصدقوا في الحديث عن البدايات المتواضعة لـ[مدرسة الديوان]، وتَصَدِّيها لشاعر القصر [أحمد شوقي]، وسعي القصر لإنشاء مدرسة مُضَادَّةٍ، هي [مدرسة أبولو] لتجهز عليها، وقد انتصرت، وانتثر عقد الديوانيين.
كان الديوانيون ثلاثة شباب، هم أقرب إلى الصعلكة الأدبية جَمَعَتْهم الصُّدف في القاهرة، و[رب صدفة خير من ميعاد]، لم يكونوا على شيء من الكفاف، ولم يكن لهم مَكَانٌ يذكر في المشهد الأدبي: [العقاد، والمازني، وشكري]. كان شكري أقواهم في الشعر. وكان العقاد أمكنهم في النقد. فيما بدا المازني أكثرهم تواضعاً في الشعر والنقد، وإن امتاز فيما بعد بالترجمة، وكتابة المقال الصحفي. التقى الثلاثة في القاهرة في مستهل القرن العشرين، واتفقوا على ضرب الرموز، ليتعجلوا الظهور والحضور.
فالعقاد أسرف في نقد شوقي. وتناوش المازني مع حافظ. واستاء الملك وحاشيته، من التطاول على شاعر القصر، وخشي شوقي على مكانته، وكان حَيِيَّاً لا يُنْشد شعره. وكان العقاد حاد الطبع عنيف النقد، متحاملاً على شوقي، محاولاً أن يَسُدَّ المكان الذي سده، وكل ما فعله بحق شوقي ظلمٌ وعدوان، ولم يستطع أن يجاري بشعره شعر شوقي، ولا أن يدانيه، ولم تكن للعقاد ورفاقه نظرية نقدية واضحة المعالم، وشعر شكري بوصفه شاعر المدرسة لم يُضِفْ إلى الشعر المصري شيئاً، بل لم يَرْقَ إلى شعر شوقي وأضرابه، ولم يحتف المشهد النقدي بشيء من إبداعات الثلاثة، فكلهم شعراء، وكلهم أمَدُّوا المشهد بقصائد مطولة، وكلهم أصْدَروا دواوين شعرية، ولكنها لم تضارع الشعر المتداول في المشهد المصري، فضلاً عن المشهد العربي. فالمشهد النقدي فوجئ بالأدب المهجري الذي اتسم بالرقة والعذوبة والتميز: لغة ودلالة.
ولو كانت [مدرسة الديوان] ذاتَ رسالة فنية، أو لغوية، أو دلالية لَشَدَّتْ إليها الأنظار. إنها محاولة شبابية، لم يكتب لها النجاح. ولم يتعملق العقاد، ويستقطب المشاهد كلها إلا بعد ما انفض سامر المدرسة.
في هذا الوقت المبكر لم أكن على علم تام بالمدرسة، بحيث أسمح لنفسي القول فيها، إذ لم أظفر بشيء من شعر الثلاثة، ولم أر كتاب [الديوان] الذي أقام الدنيا، ولم يقعدها. كان لـ[المازني] ديوانُ شعر مطبوع، وكان لشكري أكثرُ من ديوان، وكان للعقاد مثل ذلك.
وحين أسْنَدتْ إلي [كلية العلوم العربية والاجتماعية بالقصيم] إذ ذاك تدريس الأدب العربي الحديث لطلاب [الليسانس] إضافة إلى الأدب السعودي، كان لابد من الحصول على ما كتبه نقاد المدارس، وما أبدعه مبدعوها، إذ الحكم على الشيء فرع عن تصوره، ولمَّا كان المشهد الأدبي في مصر قد تجاوز المدرسة ورموزها، فقد أهمل كتبهم، وما أبدعوه، وأصبح من الصعوبة بمكان الظفر بشيء من ذلك. وأمام هذا التحدي جَنَّدْت طلابي للتنقيب عن تلك المصادر والمراجع، ولم يطل انتظاري، فقد جاؤوا بمصورات للدواوين، ولكتاب [الديوان]، وساعتها أدركت أن [سماعك بالمعيدي خير من أن تراه].
مات [المازني] قبل زميليه، وكانت الخلافات وخيبات الأمل قد فرقتهم، فالمازني مَسَّه الفقر وامتطى قلمه ليسد به رمقه. وشكري مَسَّه الضر، وصُدِم من زميله المازني الذي وصفه بـ[صنم الألاعيب].
ولم يبق إلا [العقاد] الذي شَمَخَ خارج أسوار المدرسة. أما المدرسة فقد حاربها القصر، وكتَّابُ السلطان، وقامت بإزائها [مدرسة أبولو] التي رُشِّح لرئاستها [شوقي]، ولم يلبث أن تُوُفِّي. ولم أشأ الحديث عن [إمارة الشعر] وحشد القصر لأدباء الوطن العربي لمباركة هذه المبايعة، نكاية بـ[العقاد] الذي دَنَّس قداسة شوقي، وفتح شهية المتخوفين، وكان من بين المشاركين في هذه التظاهرة الشاعر السعودي [محمد بن بليهد] الذي نظم قصيدة، ولم يتمكن من الحضور لإلقائها. والحق أن شوقياً صنعته موهبته. إنه شاعر بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، والعقاد الذي أصدر أحد عشر ديواناً لم يبلغ مُدَّه ولا نصفيه.
قد يفاجأ القراء بهذه الآراء، فأنا فيما أكتب من قبل أثني على العقاد، وأعلي من شأنه، وأعده من رواد الأدب والفكر، ولما أزل أُلِمُّ بتراثه، وليس في ذلك تناقض، فحديثي عن [العقاد] هنا حديثٌ عن دوره في المدرسة، وعن دور المدرسة في المشهد، ولم أتجاوز بآرائي كتاباته في [الديوان]؛
عندما وقع كتاب [الديوان] بيدي لأول مرة، وفرغت من قراءته، أحسست أنني أمام كتابات متواضعة، تجاوزها الزمن) وأيقنت أن الريادة شيء، والجودة والتميز شيء آخر، فالرواد لهم فضل السبق ليس غير، وليس من العدل والإنصاف أن نَدَّعِي تفوق إنتاجهم على ما لحق به، وفضل السبق لا يقتضي الجودة. وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال {فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أوعى من سامع}. وحين تحدثت عن رواية [التوأمان] لـ[عبدالقدوس الأنصاري] ونلت من لغتها وفنها ودلالاتها، ثارت ثائرة البعض، ظَنَّاً منهم أن الريادة تقتضي التميز.
لقد صُدِمْت حين قرأت كتاب [الديوان] وصُدِمْتُ حين قرأت رواية [التوأمان] إذ لم أجد تميزاً في اللغة، ولا في الفن، ولا في الدلالة، ولكن الذي يشفع للرواد سبقهم.
فالسبق الزَّمنِيُّ فضيلة، لا تَسْتَحْوِذُ على كل الفضائل. وليس من العقوق، ولا من نكران الجميل وضع مثل هذه الكتب الرائدة في موضعها المناسب. إن من الخيانة أن نُسْتَرقَّ للماضي، ومن العجز أن نُرْتَهن لآراء السابقين، وليس هناك تعارض بين العَدْل والاحترام، فاحترام الرواد لا يَعْني الإغماض في نواقصهم؛ أو الميل معهم؛
لقد تَمَكَّنْتُ بعد عودتي من مصر من تصحيح كثير من قناعاتي، وأدركت أننا مهيؤون للسماع والتَّسْليم، دون التساؤل والمراجعة. ويقيني أن المشاهد كلها لو صَدَقَت القول لما طال زمن الوهم. وما من أمة ارتهَنها الماضي، وقعد بها عن اللحاق بالركب المحب إلا أعطت ثمن القعود عن يَدٍ، وهي صاغرة. وكم هو الفرق بين الرحيل للماضي والرحيل به، إن استدعاء الماضي ليتلاقح مع المستجد تحقيق للمقاصد الإسلامية، فالتغيير مطلب، والحق ضالة المؤمن، والتجديد رؤية إسلامية. والتعامل مع الماضي لا يقتضي تقديسه، لمطلق ماضويته، أن للماضي مثلما للحاضر والمستقبل. وحفظ التوازن، ووعي المواقف منجاة من التخلف، ذلك بعض ما علمتني به الخلطة بمختلف الأطياف، وهو ما يتطلع إليه الناصح لله ولرسوله وللمؤمنين.
إن الاعتراف بالحق فضيلة، والأخسرون أعمالاً من تأخذهم العزة بالإثم. والواثقون بأنفسهم لا يجدون غضاضة من التراجع عما رأوه. لقد تقدمت برسالتي [اتجاهات الشعر المعاصر في نجد] إلى [كلية اللغة العربية بجامعة الأزهر] وفي ظني أنها القول الفصْل، وأنه لا معقب لمحتوياتها، ومن ثم أقدمت على طباعتها دون تعديل أو إضافة، وحين أثقلت الحداثيين بالنقد، أخذوا هذه الرسالة من أطرافها، وأوسعوها ذماً وسخرية.
وحين لم أقف عند حد مُدْركي الدراسي، لم أستاء من نقدهم، بل قلت:- لو جَرَّدْت قلمي لنقد رسالتي لقلت فوق قولهم، هذا الكتاب الطلابي رَصْدٌ أمين لمستواي في مطلع شبابي، وكلما عدت إليه حمدت الله أنني تجاوزته بمسافات بعيدة، ومع ذلك لم آسف على إخراجه للناس، فالمنصفون يَعْرِفون تجاوزي لما هو عليه من أراء، والذين ترددوا في طبع رسائلهم، تجاوزوها، وأحسوا أنها لا تمثل مَبْلغَهم من العلم، ومن ثم حُرِموا من الوقوف على مراحل حياتهم العلمية، وأضاعوا جهوداً كان يجب ألا تضيع.
ورسالتي المتواضعة لم تؤثر على مكانتي، والنقد العنيف الذي وجه إليها ثَبَّتَ قدمي في المشاهد كلها، وعَرَّف الناس بي، ولو لم أطبعها، لما كان لي ذلك الحضور الذي أنا عليه.
وعندما قلت في أحد لقاءاتي: إنني أقول الشعر، ولست بشاعر، أثار ذلك الاعتراف مشاعر معالي الأستاذ [عبدالواحد الحميد]، وأشاد بهذا الموقف، وتمنى لو أن الأدعياء عرفوا مبلغهم من الفن مثل معرفتي، وكفوا عن إغثاء النفوس بسرديات لا ترقى إلى مستوى الفن السردي، ونظم لا يؤبه به.
الشيء الذي أدْرَكْتُه، وكنت أتمنى لو أدركه المغثون للنفوس، أن قوْل الشعر يكون عن موهبة، أو عن اقتدار، أو عن ادعاء كاذب. والثلاثة يَجِدون من يحتفي بهم، ويشيد بما يفيضون به إلى الناس، ومثلما أصيب الإبداع بالأدعياء، أصيب النقد بالمجاملين الذين يفقدون المصداقية.
الشاعر الموهوب يولد شاعراً، والشاعرية تُصْقل ولا تكتسب، فالشاعر الشعبي كالشاعر الفصيح من حيث الموهبة. والاختلاف بين الشاعرين في اللغة، ولهذا يُبدع الشعراء الشَّعْبيون قصائد مثيرة ومكتملة من الناحية الفنية والدلالية، ولكنها مخفقة من الناحية اللغوية.
والمشاهد الأدبية حين يتوارث أهلها المتداول من القول دون تمحيص، أو تساؤل، أو شك، تأخذها الرتابةُ، ويستفحل معها الخطأ. وذلك بعض ما تعانيه مشاهدنا، وإذا نَدَّ ناقدٌ، وغرد خارج السرب اعتورته سهام النقد، وقُدِرَ عليه رزقه، وأحس بالغربة، ولكن العاقبة للصادق الناصح الذي لا تأخذه بالحق لومة لائم. ولربما يكون من المجددين الذين يأتون على رأس كل مائة سنة، يجدِّدون للأمة أمر دينها، فالأدب لا يقل عما سواه من المعارف بحاجة إلى مصححين لما التبس على الناس، ومجددين لما رَثَّ من العلوم.