من أكثر الوظائف ضبابية في مؤسساتنا الحكومية على وجه الخصوص، “الوظائف الاستشارية”، إذ إن بعض المسئولين يتعامل مع “إدارة المستشارين” على أنه “مستودع آمن” يودع فيه الكفاءات التي لا تتوافق والمرحلة التي تمر بها المؤسسة – طبعاً من وجهة نظرة الشخصية البحتة -!!، والبعض الآخر يعتبر الاستشارة منحة يتفضل بها على من يحب خاصة إذا كان “المستشار المخدوم” يعمل في قطاع آخر ويكلف بالعمل “مستشار غير متفرغ” في هذه المؤسسة، وربما يكون هو في مدينة والمكان المكلف للاستشارة فيه في منطقة أخرى قد لا يعرفها إلا على الخارطة، وزياراته لها بعد هذا التكليف زيارات خاطفة على افتراض وجودها، وإلا يكتفى بالمراسلة والاستشارة عن بعد متى ما اضطرت المؤسسة لذلك!!، وصنف ثالث مختلف يرى أن المستشارين يلعبون دوراً حقيقياً وفعالاً في تطوير المؤسسة وتقدمها، ولذا يحيل لهم كل ما يستحق الدراسة والتمعن وإعطاء الرأي فيستفيد من خبراتهم الطويلة ويأخذ منهم الرأي والمشورة المكتوبة، وهذا هو الأصل في هذا المسمى، ولذا لا يبلغ هذه المرتبة ولا يوصف بهذه الصفة خاصة في الغرب إلا من ملك زمام الرأي، ومنحه الله الحكمة، واختبرته الأيام وصاغته، وصنعته الأحداث وعصرته الظروف وعُرف عنه صدق القول وحسن السيرة وسلامة المطية والسريرة. وهذا الأمر بكل مفرداته ليس جديداً في قاموس الإدارة وعند العارفين بدروب الحياة ومنعطفات الأحداث إذ أثر عن العرب في هذا الباب الشيء الكثير قبل نشأة علم الإدارة الحديث، ومن ذلك قولهم: “عليك بمشورة من حَلَب أشطُرَ دهرِه، ومرت عليه ضروب خيره وشره، وبلغ من العمر أشده، وأورت التجربة زنده”، وكانت العرب تحمد آراء الشيوخ لتقدمهم في السن، ولأنهم لا يتبعون حسناتهم بالأذى والمن غالباً، ولما مر عليهم من التجارب التي عرفوا بها عواقب الأمور حتى كأنهم ينظرونها عياناً بياناً، ولما منحته هذه التجارب من أصالة رأيهم، واستفادته بجميل سعيهم.
كما كانت العرب تكره مشاورة من اعترته الشواغل وألمت به النوازل حتى وإن كان صاحب عقل رشيد ورأي سديد .قال قس بن ساعدة الإيادي لابنه: “لا تشاور مشغولاً وإن كان حازماً، ولا جائعاً وإن كان فهماً، ولا مذعوراً وإن كان ناصحاً، ولا مهموماً وإن كان عاقلاً، فالهم يعقل العقل فلا يتولد منه رأي ولا تصدق به روية.”
وقال الأحنف: “لا تشاور الجائع حتى يشبع، ولا العطشان حتى يروي، ولا الأسير حتى يُطلق، ولا المقل حتى يجد، ولا الراغب حتى ينجح.”
إن كثيراً من قطاعاتنا التنموية اليوم الحكومي منها والخاص تمر بمرحلة تطويرية فرضتها معطيات الواقع وأملتها مستلزمات التغيير الجبري، وهذه المرحلة بكل تداعياتها وبجميع متطلباتها توجب وجود مستشارين أمناء صادقين يعرفون الحق ويميزون بين خيري الخيرين وأقل الشرين، وينصحون من طلب مشورتهم بكل أمانة ومصداقية وإخلاص.
نعم إننا في وقت لا تنفع فيه المجاملة للمسئول أميراً كان أو وزيراً أو حتى مديراً، إذ هو في الأصل وبناء على تكوينه الذاتي الذي جبله الله عليه فضلاً عن الضغوط والتساؤلات التي تتقاذف عليه صباح مساء بحاجة ماسة إلى من يشير عليه، وينتظر - وهو يقوم بأداء ما كلفه به ولي الأمر من أعمال يراد بها تحقيق الصالح العام - النصيحة المحضة الخالية من حظوظ الذات المتطلعة لتحقق المصلحة الآنية والمستقبلية والرامية لتحقيق النفع العام لا الخاص، إذ أن مصلحة الجماعة مقدمة على مصلحة الفرد.
ولا يحط من قدر الرجل أياً كان صاحب سمو أو صاحب معالي أو سعادة.. استشارته للآخرين منهم دونه، فقد أمر الله عز وجل نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بمشاروة من هم دونه، إذ قال سبحانه مخاطباً نبيه عليه الصلاة والسلام “وشارهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله”، مع أنه في الأصل ليس بحاجة إلى رأي الآخرين إذ هو متصل بالوحي ومسدد من رب العالمين.”وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى”.
إن على المستشارين مسئولية كبرى أمام الله أولاً، ثم ولي الأمر، ومن بعده من وثق بهم وأسند لهم القيام بهذه المهمة الجليلة وكان ينتظر منهم الرأي السديد الذي به سلامة دينه وحسن حال دنياه، كما أنهم يتحملون مسئولية وطنية توجب عليهم مراعاة حقوق الوطن والمواطن حين قيامهم بهذه المهمة العظيمة.
لقد أضر بعض المستشارين حتى وإن كانوا غير رسميين ولا يحملون هذه الصفة في قرارات أصحاب الصلاحية، متخذي القرار وصٌنّاعه في مؤسسات الدولة، وذلك لهوى في النفس أو لحاجة تتلجلج بين الحنايا أو بحثاً عن تحقيق مصالح شخصية على حساب مصلحة الوطن، والنتيجة النهائية المشاركة الحقيقية في تضخيم واتساع مساحة الفساد في مؤسساتنا الحكومية وللأسف الشديد!!، ولذا لا بد – في نظري - من تأطير هذه المهمة وتوثيق أعمالها ورصد آثارها حتى لا تكون باب فتنة وسبب شر وطريق فساد وإفساد حفظ الله ولي أمر البلاد وأسعد بفضله ومنه العباد، دمتم بخير وإلى لقاء والسلام..