ويروى حديث من تكبر بنفسه
يجوز التكبر عنه في كل الأحوالي
وما قاله القاضي (ت 1285هـ) في هذا البيت مأخوذ من الحديث الذي أورده الإمام الغزالي (ت 505 هـ) في الإحياء, وهو «إذا رأيتم المتواضعين من أمتي فتواضعوا لهم، وإذا رأيتم متكبِّرين فتكبَّروا عليهم، فإنّ ذلك مَذَلّة لهم وصَغَار». وهذا الحديث لم يرد في كتب الحديث المعتبرة, وقد وصفه مخرّج أحاديث الإحياء الإمام العراقي (ت 806 هـ) بأنه (غريب), قال الشيخ حسن قاطرجي: وهذا الحكم منه (أي العراقي) على الحديث يدلّ على أنه لم يجد له إسناداً، ثم قال: وهذا إن صدر من حافظٍ، كالعراقي، يُفيد بأنه (موضوع). ومعلوم أن عدداً من العلماء يستعملون (غريب) بهذا المعنى كالإمام النووي في «المجموع»، والحافط الزَّيْلَعي في «نصب الراية». وذكر حسن قاطرجي أيضا أن الإمام السبكي (ت 756هـ) قد أورده ضمن ترجمة الإمام الغزالي في كتابه «طبقات الشافعية الكبرى» في جملة الأحاديث التي وقعَتْ في «الإحياء» مما ليس لها إسناد، تحت قوله رحمه الله: (وهذا فصل جمعتُ فيه ما وقع في كتاب «الإحياء» من الأحاديث التي لم أجد لها إسناداً).
والحديث أورده الإمام الفتني (ت 986هـ) في الموضوعات وقال عنه (غريب).
قلت: وفي معنى هذا الحديث قالوا (التكبر على المتكبر عبادة), و(التكبر على المتكبر صدقة), وكذلك (التكبر على المتكبر تواضع) وكلها ليست من كلام المصطفى عليه الصلاة والسلام, بل كلمات من كلمات الناس, قال العجلوني (ت 1162 هـ) في (كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس): (التكبر على المتكبر صدقة) نقل القاري عن الرازي أنه كلام, ثم قال: لكن معناه مأثور. انتهى, والمشهور على الألسنة (حسنة) بدل (صدقة) انتهى كلام العجلوني.
وقال البيهقي رحمه الله (ت 458هـ), في شعب الإيمان: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرني عبد الله بن محمد الدورقي، قال: سمعت أبا العباس الثقفي، يقول: سمعت الفتح بن سخرف، يقول: سمعت إسحاق بن الجراح، يقول: سئل ابن المبارك (ت 181هـ) عن التواضع؟ فقال (التكبر على الأغنياء).
وقد ذكر الغزالي في الإحياء أن يحيى بن معاذ الرازي (ت 258 هـ), قال (التكبر على ذي التكبر عليك بماله تواضع), وقال الحصري (ت 453هـ) في زهر الآداب: قال يحيى بن معاذ ( التكبر على المتكبر تواضع).
وذكر ابن الملقّن (ت 804هـ) في طبقات الأولياء ـ أن بشر الحافي (ت 227 هـ) قال (التكبر على المتكبر من التواضع), ولبشر أيضا نسبها الأبشيهي (ت852 هـ) في المستطرف.
وقال الشيخ محمد البِرْكِوي (ت 981 هـ) في كتابه (طريقة محمدية وشريعة نبوية في سنة أحمدية): (والتكبر حرام إلا على المتكبر فقد ورد فيه أنه صدقة), وقال أبو سعيد الخادمي (ت 1176هـ) في شرح هذه العبارة في كتابه (بريقة محمودية في شرح طريقة محمدية وشريعة نبوية): أي صدقة (على من تكبر عليه كما ورد: التكبر على المتكبر صدقة لأنه إذا تواضعت له تمادى في ضلاله وإذا تكبرت عليه تنبه، ومن هنا قال الشافعي (ت 204 هـ) تكبر على المتكبر مرتين، وقال الزهري (ت 124 هـ) التجبر على أبناء الدنيا أوثق عرى الإسلام، وعن أبي حنيفة (ت 150 هـ): أظلم الظالمين من تواضع لمن لا يلتفت إليه، وقيل قد يكون التكبر لتنبيه المتكبر لا لرفعة النفس فيكون محموداً كالتكبر على الجهلاء والأغنياء، قال يحيى بن معاذ: التكبر على من تكبر عليك بماله تواضع». انتهى
قلت: والتكبر على المتكبر هنا إنما هو تكبر على الخُلُق لا على المخلوق ولفظ (التكبر) استخدم في هذه العبارات من باب المشاكلة ليس غير. والحق أن من يحتقر الناس أحق أن يُحتَقَر, ومن يرهم صغارا فهو الصغير, أنشد المبرد:
إذا تاه الصديق عليك كبرًا
فَتِهْ كبرًا على ذاك الصديق
فإيجاب الحقوق لغير راعٍ
حقوقَك رأسُ تضييعِ الحقوق
أي ترفع على من يترفع عليك لأن قمة تضييع الحقوق أن تحفظ حقوق من لا يحفظ حقوقك.