كان أول لقاء لي بالفقيد الدكتور محمد الأحمد الرشيد - رحمه الله - عام 1403هـ حين كان مديرا لمكتب التربية العربي ؛ حيث كان الضيف الثاني في برنامج « بين ذوقين « وطلب مني أن آتي إليه في منزله الذي كان يقع خلف معهد العاصمة النموذجي بحي الناصرية ونذهب سويا إلى منزل سمو الأمير متعب بن عبد الله بن عبد العزيز لإجراء اللقاء في منزل الأمير، ولم أكن أعلم ذلك الأفق الفكري الواسع والعميق الذي يتمتع به الدكتور محمدالرشيد ؛ فقد عرفت عنه الجانب التربوي والرؤى الإصلاحية للتعليم التي كان يكتبها أو يتحدث بها في المنتديات ؛ ولكنه حين بدأت أسئلة البرنامج تتوالى بدأ يتكشف عن روح إنسانية واجتماعية عالية جدا، فانطلق بشفافية ليلامس قضايا حساسة على المستوى الاجتماعي لم يكن من اليسير تناولها بذلك الأسلوب الجريء الذي أجاب به عن أسئلة البرنامج؛
وحين ركبنا السيارة عائدين إلى منزله حيث أخذته، قال لي في الطريق : يا محمد هل تظن أن الإذاعة ستبث لقاءنا الذي سجلناه قبل قليل دون مونتاج أو قطع أو تلطيف ؟ قلت وأنا أضحك : أظن ذلك متأكدا ؛ لأن هذا طابع البرنامج ! قال : لكننا غصنا عميقا في ما يعتقد البعض أن الخوض فيه مغامرة أو هو من المحضورات ؛ كقيادة المرأة للسيارة مثلا ! قلت : سيبث كما تحدثتما ولن يناله تلطيف أو مونتاج، وهو ما حدث بالفعل؛
أحببت الدكتور محمدا بعد هذا اللقاء العفوي البعيد عن الكلفة والرسمية، وتوثقت الصلة به، وازداد حضوره الإعلامي والثقافي ؛ لما يتمتع به من إمكانات عالية في الحديث والاسترسال وسرعة البديهة والبلاغة والقدرة على التخلص من المآزق الإعلامية والأسئلة المفاجئة، وكان نجما مألوفا في الندوات المصاحبة للمهرجان الوطني للتراث والثقافة ؛ متحدثا رئيسا حينا، ومديرا لبعض ندواتها حينا آخر ؛ وفي عام 1408هـ فوجئت وأنا مع ثلة من الزملاء في مكتب العلاقات العامة للمهرجان الوطني في فندق قصر الرياض بمن يناديني وهو واقف عند مدخل المكتب، فاحترت بين معرفتي للصوت ونكراني للشكل، وحين أعدت النظر وتأملت مليا ؛ فإذا هو الدكتور محمد الرشيد فسلمت عليه بحرارة ومحبة، وقلت له : والله لم أعرفك يا أبا أحمد ؛ ولو لا صوتك لما عرفتك البتة ! عسى الأمر خيرا، أين وزنك ؟ وكيف وصلت إلى هذه النحافة ؟ أهو على كره منك أم هو أمر اجتهدت فيه وحققته ؟ قال : بل هو أمر أردته وحققته بعد جهد جهيد وسأحافظ عليه ؛ فدعوت له بدوام الصحة والعافية، والحق أنه تخلص - آنذاك - من وزن زائد، وأصبح أخف حركة وأكثر طولا وأدق ملامح؛
ثم تشرفت لاحقا بحضور بعض أمسيات ندوته الأسبوعية التي كانت تعقد بعد مغرب كل سبت، ثم كل أحد بعد تعديل الإجازة الأسبوعية، وكان يحضرها ثلة ممتازة من الفضلاء من أكاديميين وأدباء ووجهاء وتدور أحاديث شتى ينقلها الدكتور محمد بذكائه الحاد ولفتاته البارعة وسرعة بديهته وصوته المميز ؛ فمن نادرة إلى تعليق على خبر سياسي ساخن، إلى رؤية فكرية أو تربوية، أو وقفة مع كتاب جديد قدم به أو ألفه أحد الحاضرين، وهكذا، وهو في وداع ضيوفه بمثل حيويته وبشاشته ولطفه وكرمه في إهداء الكلمات المحبة الودودة لضيوفه حاضري جلسته العفوية اللطيفة؛
ولا يمكن أن أنهي وقفتي القصيرة مع سمات الدكتور محمد الرشيد دون أن أشير إلى أن شخصيته عجينة متآلفة متداخلة بعمق شديد ولن يستطيع أحد أن يفصل جزءا منها عن الآخر؛ يتمازج في تكوينه ولغته وفكره وحضوره التأسيس الأصيل مع العلم الحديث في اندفاع وطني مخلص محفوف بسياجات أخلاقية عالية ؛ فهو القديم والحديث والناقد المحرض على التغيير إلى الأفضل والمحفاظ على الثوابت الدينية والوطنية؛
رحم الله فقيدنا الكبير والعزاء موصول لأسرته الكريمة ولمحبيه.