* تعيدك بعض الأحداث - مهما كانت درجتها من الأهمية - إلى التاريخ، إلى تقليب صفحات التراث أحيانا، لتستنطقها كشواهد لما تقول، وكم من الروايات، أو القصص قراءتنا لها لا تتجاوز السرد، ولا نعطيها ما تستحق من التأمل، أو التحليل العميق. معلومات نعبر بها مقاعد الدراسة وحسب، وقليل منا ذلك القارئ الفطن المتذوق، أو الراصد المحلل لكل ما يمر به، أو يعن له من الطرائف والظرائف.
* بعض الأماكن تقترن عند المثقفين بشخصيات تراثية خلدتها خلال حدث من الأحداث، قصة نجاح، أو إخفاق، وعند الأدباء بشكل خاص لا تذكر (منفوحة) إلا ويقفز للذاكرة صناجة العرب، الشاعر (الأعشى).
* مع الشغب المثير، ومع وقع الحدث الأخير لبعض الجاليات التي استنكرتها منفوحة (الرياض) قبل أن يتنكروا المستوطنون للحي (المضياف) على منظر رحيل بعض ساكنيها، مكرها، أو طائعا، تاركا ألوانا من الذكريات، لم يستدع (الحي) المكلوم وقتئذٍ:
وَدِّع هُرَيرَةَ إِنَّ الرَكبَ مُرتَحِلُ
وَهَل تُطيقُ وَداعاً أَيُّها الرَجُلُ
* لم تهم (منفوحة) بتلك التي قال عنها، وقد ملكت عليه لبه وفؤاده:
غَرّاءُ فَرعاءُ مَصقولٌ عَوارِضُها
تَمشي الهُوَينا كَما يَمشي الوَجي الوَحِلُ
* لسان الحال يقول: ارتحال غير مأسوف عليه، إذ لم تقم علائق الارتباط بذلك المكان على علائق وجدانية قوية، تستحق أن تسكب عليها تلك العواطف الرقيقة الدافقة التي فاضت بها قريحة (الأعشى). تستفيق (منفوحة) من ليلها الحالم من غير أن يتناقل القاطنون، أو يرددون (تسمعُ للجن في حافاتها زجلُ)، ستنتهي تلك الليالي، بكل ما انطوى عليه ظلامها.
* منفوحة طربت، أو ستطرب، وهي تحتضن العنصر (العربي)، لأنه، وفي أقل الحالات سيظل متعلقا بشوارد (الأعشى) كلما استفزته الذاكرة.. ستجد (منفوحة) بعد حملة التصحيح من يستعيد علاقات الزمان والمكان، بعد عقود من الانفصال الذي قارب عقودا ثلاثة، أو يزيد. اليوم (منفوحة) وبعد أن منيت بالهجران تستيقظ على فجر جديد إثر الحملة التصحيحية التي قادتها حكومتنا الرشيدة بعزيمة صادقة، حين وضعت يدها على مكامن الخلل وشخصته تشخيصا دقيقا من جميع جوانبه، لكي يعيش المواطن، وكل مقيم يحترم النظام برفاهية وأمن واطمئنان على نفسه وعلى ماله. تأتي هذه الوقفة الإصلاحية الجادة بعد سنوات من التساهل في تطبيق بعض الأنظمة، أو من استغلال البعض ثغرات، أو ازدواجية في مهام بعض الجهات الإشرافية أدت إلى ذلك الخلل الكبير في سوق العمل والعمال في هذه البلاد، إلى أن آلت الأوضاع إلى ما آلت إليه، وتحملنا أثره الكبير علينا، اجتماعيا، واقتصاديا، وأخلاقيا.
* من المؤكد أن غيري تناول المشكلة، وغيري لديه القناعة المطلقة بفداحة الموضوع، وغيري يتناولها اليوم، وقد تناولها قبل سنوات. لن نتحاكم، أو نطلب فتح ملفات الماضي، كيف تكونت هذه المشكلة، وما أسبابها؟ لكن من الثابت أن هذه الجاليات لم تأت وتتخذ من البراري سكنا لها، لم تأت وتتخذ من مهنة (الرعي) في الصحاري مهنة وحيدة. استقرت بيننا، آويناهم باختيار، واستأجروا المنازل، ومازالوا يسكنون، رغم الإعلان عن تلك العقوبات، عملوا في منازلنا، ونحن نعلم عدم نظاميتهم، مارسوا أصناف المهن، على مرأى ومسمع؟ إذن الخلل، والثغرات، والإهمال، والتسيب آتٍ من هنا وهناك؟
* ضريبة تصحيح عقود من الزمن لن تكون سهلة وميسورة، ونحتاج إلى مزيد من الوقت، كي نكيّف أنفسنا على النظام أولاً، وأهمية احترامه ثانيا، نكيف أنفسنا على حياة جديدة يعتمد فيها الوطن على سواعد أبنائه، ليساهموا في بناء وطنهم، منافسين للغير، قادرين على مجابهة كل ألوان التحديات، لاسيما في هذه السنوات العصيبة التي تعيش فيها المنطقة حالة استثنائية من الفوضى والاضطرابات والصراعات غير مسبوقة في تاريخها القريب.اليوم تعيش كافة دول الشرق الأوسط بالذات في مرحلة انتقالية حرجة، لاسيما في ظل الأحداث المحيطة بنا من كل جانب، والمواقف المتباينة من كافة القوى الدولية، ولا سبيل لأي دولة للخروج من هذه المآزق والانتكاسات إلا بالاعتماد على الذات، وإعادة تأهيل شعوبها ومجتمعاتها من جديد، فالأخطار والتحديات أكبر مما يتصوره البعض، نحتاج بالفعل إلى مراجعة عميقة وجادة لأنظمتنا، ولطرائق تفكيرنا، ولأسلوب حياتنا بشكل عام.