تُعلِّمنا وفاة كل من كان ملء السمع والبصر المزيد من الدروس والعبر، وتضيف إلى معارفنا ما لم يخطر على بال أي منا، وكأن صدمة الوفاة شرارة لإيقاظ ما كنا قد غفلنا أو انشغلنا عنه، وتذكيراً بما كانت شؤون الحياة قد صرفتنا عن مجرد التفكير فيه، وصولاً إلى التأمل العميق بأقدارنا وبما هو آت منها.
***
فالحياة بأسرارها وغموضها، بما تحفل به من تقلبات، بعضها قد يلاقي شيئاً من رضانا، وأخرى منها ربما كان على النقيض من حيث رضانا وتقبلنا لها، فالحياة لحظة انتظار تفضي لما هو أكثر غموضاً، والسير فيها نحو ما هو مجهول، فما يجري في الدنيا شيء، وما هو منتظر في الآخرة شيء آخر.
***
وفي وفاة الأخ العزيز الدكتور محمد الأحمد الرشيد كثير من الدروس والعبر، وقد كان الفقيد بيننا نشطاً وفاعلاً حتى اللحظة التي توقف فيها قلبه الكبير وأسلم روحه إلى بارئه راضياً ومستسلماً لقضاء الله وقدره، ما يعني أن أبا أحمد كان حاضراً في أذهاننا، حيث التفوق تعليمياً والنجاح وظيفياً، وحيث العلاقات الحميمة بنبلها وأصالتها وصدقها، مع كرم وسخاء وطيب معشر.
***
تعرفت على الفقيد - أول ما تعرفت عليه - حين كان ضمن طاقم الأكاديميين المميزين في جامعة الملك سعود، وازدادت معرفتي به مع توليه لمسؤولياته في مكتب التربية لدول الخليج، وتعمقت خلال توليه حقيبة وزارة التربية والتعليم - المعارف سابقاً - وزيراً لها، وعرفت عنه ما لم أكن أعرفه خلال لقاءات جمعتني به في رحلات خارجية وتحديداً خلال بعض الإجازات الصيفية في (لوس أنجلوس) مع مجموعة منتقاة وغير قليلة من السعوديين الأخيار، حيث اعتاد -رحمه الله- أن يجمعنا في ضيافته في أجواء أسرية تبقينا في أجواء المملكة وإن بعدت المسافات وتغيرت الأجواء.
***
ومع وفاة الدكتور محمد الأحمد الرشيد، لابد أن نستذكر وتسترجع إنجازاته وأعماله الكبيرة في وزارة التربية والتعليم -تحديداً- فقد غير كثيراً مما لا يُسمح بأن يُمس في المقررات الدراسية والسياسات والأنظمة ضمن مشروعه الجريء لتطوير التعليم، المنسجم مع سياسة الدولة وحرصها لتطوير مستوى التعليم إلى أن يبلغ أعلى مستوى له، وقد شمل هذا المدرس والطالب والمدرسة الحكومية منها والأهلية، فكان هذا التوجه الجميل إنجازاً كبيراً فتح آفاقاً واسعة أمام المعنيين بأن عملية تطوير التعليم ممكنة ومتاحة إذا ما تم التعامل معها بمثل ما فعله الرشيد من مبادرات.
***
ولأن أي لمسة تطوير يترتب عليها إجراء تغييرات جوهرية لما هو قائم وسائد ومسلَّم به، فإن لمثل هذه الخطوات خصومها ومعارضيها، فقد واجه الوزير الرشيد الكثير من المواقف المناهضة لخطواته التطويرية من أعداء التغيير، وبعض معارضيه ربما كانوا ممن لا يحملون صفة المسؤولية والقدرات التي تؤهلهم أو تسمح لهم بالتصدي لما كان يجري من حراك في الوزارة، غير أنه لم يعبأ بهم، أو يلتفت لآرائهم، ولم تثنه مثل هذه المواقف عن السير بخطى واثقة بما كان يؤمن به ويرى فيه مصلحة وفائدة في تطوير مستوى التعليم في البلاد.
***
أعفي كوزير لوزارة التربية والتعليم من عمله، وبقيت إنجازاته تتحدث عنه، وتشير بما لا لبس فيه إلى قيمتها المضافة إلى مستوى تطوير التعليم، وعلى من زامله أو عمل معه أن يتحدث عنها بإنصاف، وعلى خبراء التعليم أيضاً أن يقدموا دراسات عنها، بغرض تفعيل ما جمد أو أهمل منها، أو ما تم التساهل في تطبيق الكثير منها، وقد يكون من المفيد أن نعيد النظر في تجارب تعليمية سابقة للرشيد ومن سبقه أو جاء بعده، وبخاصة حين تكون هذه التجارب غنية بالكثير مما قد يحتاجه التعليم لبلوغ أهدافه التي يتم التخطيط له الآن ودائماً.
***
ولأن التعليم عملاً وتعليماً كان في صميم اهتمام الفقيد، فإنه عشقاً وحباً وتفاعلاً لم ينته معه إلا بوفاته -رحمه الله- فقد حرص على تواصل علاقته بالتعليم، بحيث لا يحول دون هذه العلاقة حائل، ولا تتوقف صلته بالتعليم بانتهاء سنوات خدمته وزيراً للتربية والتعليم، فكان أن استمر بالتعليم الخاص، موظفاً خبرته وماله وتخصصه في سبيل إيجاد مدارس تشارك في تغطية العجز والنقص في عدد المدارس النوعية، ليضيف بذلك خطوة جليلة مثلت في سنوات حياته خياره المفضل، وهو أن المتعة في العمل والاستثمار الأفضل حين يكون ذلك في مجال التربية والتعليم.
***
رحم الله أبا أحمد، الرجل الذي فقدناه على حين غرة ومن غير توقع، وفي مفاجأة مدوية، وكأنه كان يحضّرنا في صمت الرحيل هذا نحو مزيد من الشعور بالحزن والأسى، دون أن يعيش هذه اللحظة مع محبيه وعارفيه، وقبل ذلك أبنائه وبناته وإخوانه وأخواته زوجه وأهله جميعاً.