لا أعرف أن وحدة عربية تمت ولادتها بمثل ما ولدت به وحدة المملكة العربية السعودية بإنجازاتها المبهرة والكبيرة والعظيمة، بل أكاد أجزم بأن المستقبل لا يوحي بتكرار هذه التجربة غير المسبوقة على مستوى الوطن العربي الكبير، وإن شئت فقل على مستوى العالم، في ظل المعطيات السياسية والثقافية والاقتصادية والأمنية، وكذلك حين ننظر إلى المزاج العربي المعادي - مع شديد الأسف - لأي توجه وحدوي باستلهام التجربة السعودية، وعلى خط التفكير المبكر الذي ألهم الملك عبدالعزيز -رحمه الله- ليقود هذا الإنجاز العظيم.
***
فهذه الرقعة الواسعة من الأرض، وهذا التنوع في الجغرافيا والتاريخ، وهذه القبائل التي ساد حياتها الاقتتال فيما بينها على امتداد هذا الوطن، وتلك الدويلات التي كانت تتنازع فيما بينها تدفعها الأطماع وحب السلطة في أرض الجزيرة العربية، تجعلنا نتساءل: من كان يعيش في مثل هذه الأجواء والظروف، هل خطر في ذهنه بأن يفكر كائناً من كان بأن يلم شملها، ويحقق وحدتها التي طال شوقه لها، وبسط نفوذه وسلطانه عليها غير الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود.
***
إنها دروس عظيمة، وتجارب قد لا تتكرر، ونتائج بحجم تلك التضحيات. وهذه أقل ما يمكن أن توصف به هذه الوحدة بمقوماتها ونتائجها، فقد قضت على الصراعات، ووضعت حداً للاحتراب بين الناس، وألغت إلى غير رجعة خطوط الحدود، والأهم من ذلك أنها وحدت القلوب، وآخت بين المواطنين، وضمنت لهم حياة حرة كريمة، وشراكة مسؤولة في الحقوق والواجبات دون تمييز، وهو ما كان يستحيل أن يتمتعوا به لو بقي الحال هو الحال، وكما كان قبل أن يقود الملك عبدالعزيز مواطنيه الأبطال لإنجاز ما تم إنجازه.
***
لكن ملك الوحدة وزعيمها التاريخي وبطلها الكبير لم يكتف بانتصاره على خصومه مع ما يمثله ذلك من إنجاز عظيم، وهو يرى أن دولته الوليدة فقيرة في كل شيء، تعليمياً وصحياً واقتصادياً وغير ذلك من الخدمات الضرورية، فيما كان طموحه ورؤيته وهدفه أن تكون المملكة في مصاف الدول المتقدمة التي يجد فيها المواطن كل متطلباته. ولهذا كان سعيه حثيثاً نحو تأسيس دولة حضارية لا يشتكي فيها الموطن من سوء الخدمات أو عدم توفرها. رغم تواضع الإمكانات المادية آنذاك، ومحدودية الخبرة، وقلة العناصر البشرية المتعلمة في مملكته الناشئة، فكان أن صدرت في عهده الكثير من الأنظمة والقوانين والتشريعات والأوامر الملكية التي فتحت المجال أمام إنشاء عدد من الوزارات، والمحاكم الشرعية، وبناء القوات المسلحة، وأجهزة الأمن، وتوطين البادية، وفتح المدارس والمعاهد، وتوفير الخدمات الصحية، وإعطاء الزراعة حقها من الاهتمام، والتنقيب واستخراج النفط، وبناء أوسع العلاقات الثنائية مع الدول ضمن سياسة معتدلة، وتعاون مفتوح مع الدول الأخرى.
***
وامتداداً لهذه السياسة الحكيمة، وبمثل ما كان يدير به الملك عبدالعزيز دولته الناشئة، والتزاماً من أبنائه بهذا الخط، فقد سار ملوك المملكة سعود وفيصل وخالد وفهد -رحمهم الله- على خطى والدهم العظيم، فكان التوسع في كل ميدان وفي جميع الحقول، من ملك إلى آخر، ضمن تفانٍ وحرص وحماس، مكن المواطن من أن يرى هذا التكامل في العمل والعطاء، ليعيش أسعد سنوات عمره في رفاهية وحياة حرة كريمة، متمتعاً مع كل ملك بما أسعده ووفر له ما كان يتمناه ويتطلع إليه، في مملكة يسودها العدل والمساواة والحرص على حقوق المواطنين.
***
وفي عهد الملك عبدالله، وإن جاء امتداداً لعهود من سبقه من الملوك من حيث الإنجازات، إلا أنه تميز بالتنوع والثراء، وبملامسة اهتمام ومصلحة قطاع عريض من المواطنين، وهو ما وضع قرارات الملك عبدالله في موقع متقدم من حيث تأييد المواطن واحترامه لهذا الملك التاريخي الذي أصدرها، في مرحلة شديدة التعقيد، وفي مناخ شهد الكثير من التطورات السلبية وعدم الاستقرار في عدد من الدول العربية.
***
وحسبنا أن نشير إلى بعض ما تحقق في هذا العهد الزاهر من تطور مذهل لم تستثن منه أي منطقة أو مدينة أو قرية على امتداد وطننا الحبيب، فمن تضاعف أعداد الجامعات، إلى فتح المجال أمام أكثر من مائة وخمسين مبتعثاً ومبتعثة، ومن تعميم شبكات الطرق بواسطة القطارات داخل المدن وبين مناطق المملكة، إلى اهتمام بالنقل العام بجميع أنواعه، وهكذا وعلى هذا النحو من الاهتمام تجري توسعة الحرم المكي وتطوير مكة المكرمة، ودعم القضاء، والعناية بالخدمات البلدية والاجتماعية، وتطوير القوات المسلحة وأجهزة الأمن، ومثل ذلك تطوير التعليم والصحة، والعمل دون توقف من أجل توفير السكن لأفراد الشعب.
***
ولا يمكن أن نتحدث عن الملك عبدالله بن عبدالعزيز وما تحقق في عهده دون أن نشير إلى اهتمامه الشخصي بالمرأة ومنحها كامل حقوقها، وذلك من خلال مشاركتها في عضوية مجلس الشورى، وناخبة ومنتخبة في المجالس البلدية، ومبتعثة للدراسة في الخارج على قدم المساواة مع زميلها، وتوليتها مراكز وظيفية متقدمة تصنف ضمن فئات الوظائف الأول في الدولة. وهذا قليل من كثير مما حظيت به المرأة السعودية من عناية واهتمام، وهو ما ظلت على مدى سنوات طويلة تطالب به باعتباره حقاً لها، فإذا بعبدالله بن عبدالعزيز يلبي لها رغبتها وينصفها ويمكنها بأن تخدم وطنها ومواطنيها بأكثر مما كان عليه الحال من قبل.
***
إن إنجازات ملوك المملكة سعود وفيصل وخالد وفهد وعبدالله، مستوحاة من الفكر المتقدم والرؤية المبكرة والمواقف المبدئية لدى الملك المؤسس الذي لا يزال الجميع يتعلمون من حكمته ورؤيته وتجربته وفكره، تلك التي نتحدث عنها هذه الوحدة العظيمة التي نحتفل بها ونحتفي بذكراها الـ(83) الآن، مستذكرين ذلك التمزق والصراعات والأمن المفقود التي كانت تسود أرض الوطن قبل أن يتم توحيدها تحت اسم المملكة العربية السعودية.