اطل بوجلٍ مألوف ولهفة معتادة من نافذة شقته على الشارع الضيّق .. تفحّص وجوه المارة.. بدأ باستقراء مشاعر الناس وأحاسيسهم.. أحزانهم وأفراحهم.. ومن ثم الغوص داخل ملامحهم واستنطاقها.. قراءة الملامح واستقراء الأفكار هوايته المٌحببة والدائمة.. يجد بها الكثير من متعته ويختبر من خلالها أدواته في الفراسة ومهاراته في الشعر وحين ينجح تنتابه نشوة انتصار لاتعرف حدا.. نجاحه من عدمه هو من يقرره وحده !.
على حافة الرصيف اعتاد رؤية ماسح الأحذية وهو رجل تجاوز عمره الخمسين بقليل، تعلم المهنة من والده وحين مات الأب استطاع الابن ان يسد مكانة بكل اقتدار!.
كان يُمضي وقتا طويلا في تفحّص هذا الملازم لصندوقه الخشبي على الرصيف.. يبذل جهدا كبيرا لاستنبات الأسرار من ملامح وجهه وحركة يديه ويلتقط بعض الاستنتاجات من إيماءات وملامح زبائنه !.
في الركن القصي من الشارع الضيّق هناك مقهى صغير يتكوّم به اغلب سكان الحي لدفن الهموم وذبح الفراغ.. أصوات زبائن المقهى وضجيجهم يصل إليه في شقته وعيناه الضيقتان مقيمتان معهم.. كانت الأصوات تزعجه أول الأمر لكنه ألفها واعتاد عليها واصبح يفتقدها حين إغلاق المقهى.. رواد هذا المقهى مادة أخرى لعطش نظراته ونهم فراسته التي لم يسلم منها كثير من نساء الحي وأطفاله !.
بعد العاشرة مساء يُغلق نافذته وينكب على مكتب عتيق في صالة شقته المتواضعة، حيث تتكدس الأوراق والأقلام وحاسوب قديم وقف صامدا في وجه الغبار والزمن !.
على هذا المكتب المتواضع يسكب عصارة مرئياته ومشاهداته واستنتاجاته في قصائد شعرية تضج بالألم والأمل وتنزّ بالحزن واللوعة.. يمزج فيها آلامه بآلام هؤلاء الناس البسطاء حيث يحصد من حركاتهم وسكناتهم جل أفكار قصائده ومضامينها.
في الحي يسموّنه الرجل الغامض.. وبعض كبار السن يطلقون عليه الأجودي والبعض يسميه (الدابة السليمة)!.. لكن أي أحد منهم لم يستطع سبر أغواره وفهمه، كلهم يقفون خارج أسوار نفسه.. هو وحده الذي استنطق دواخلهم وخلّدها في قصائده أو هكذا كان يظن ..!
خطوة أخيرة لـ(مهدي بن سعيد)
جيت افرّج بعض همّي بالكتابة
واكتشفت أن الكتابة كل همّي