كـانت تلك اللقـاءات التلفزيونية التي أجراها الأستاذ داوود الشريان على قناة الـ(mbc) الفضائية، مع ثلاثة من الموقوفين في قضايا إرهابية أو تكفيرية، بمثابة (كشف المستور) عن هذا الفكر ومنطقه وسذاجته، وفي الوقت ذاته (خطورته)، ليرى كثيرٌ ممن لا يعرفونهم ولا يعرفون حقيقة أفكارهم، مَنْ هُم هؤلاء، ولماذا أوقفوا، ومدى خطورتهم على أمنهم وعلى استقرار الوطن وأهل الوطن. وبحسب متابعتي لمن يستثمرون قضية الموقوفين هذه (سياسياً)، خصوصاً في مواقع التواصل الإلكتروني على الإنترنت، لا أتذكر أنني رأيت موقفاً مُرتبكاً وغاضباً، وتجاذبات منفعلة، وتعليقات متناقضة، أو بلغة أدق (حوسة)، مثلما كانت عليه ردة فعل هؤلاء (الانتهازيين) على هذه اللقاءات؛ ما يجعل القول أن هذه اللقاءات ضربتهم بقوة في الصميم، وعرتهم، قولاً يُؤكده الواقع فعلاً.
كانت الجهات الأمنية في الماضي - للأسف - لا تكترث كما ينبغي بالإعلام والشفافية كوسيلة علاجية لهذه الانحرافات الفكرية الخطيرة، وتكتفي بلجان المناصحة فقط؛ ورغم أن هذه اللجان قد حققت بعض النجاحات المشهودة في ثني كثير من الموقوفين عن انحرافاتهم كما يقولون، إلا أن الأهم ليس علاج الفرد (المنحرف) فحسب، وإنما علاج ومحاصرة (الفكر التكفيري) نفسه حيث استقى منه المنحرف انحرافه؛ هذا المستنقع الذي شرب منه هؤلاء وما زال يشرب منه أقرانهم هو أس الداء وأصل البلاء؛ ولا يمكن في تقديري ردم هذا المستنقع إلا بكشفه وتعريته أولاً كما هو على حقيقته قبل أن نتحدث عن كيفية علاجه والتعامل مع مكوناته؛ هذا الهدف هو ما حققته تلك الحلقات الثلاث بامتياز.
هناك من انتقد هذه اللقاءات من منطلق أنها قضية (فكرية)، وبالتالي كان من المفروض أن يتولى لقاءهم ونقاشهم طلبة علم متخصصون، فهم القادرون على حوارهم ومقارعتهم وبيان عوارهم الفكري من الإعلاميين المتخصصين.. وأنا لست مع من يقول بهذا القول؛ السبب أن الهدف ينحصر (الآن) فقط في مجرد (كشفهم) وسبر أغوارهم وإظهارهم على الناس و(جذب) المتابعين إليها وشدهم إلى مشاهدة الحلقات دون أن يكتنف المتابع مللاً، وهذه - خاصة الجذب - يُتقنها الإعلامي المتخصص والمهني وليس طالب العلم؛ دعهم يتحدثون، ويُعبرون عن فكرهم ورؤاهم ومنطلقاتهم وأهدافهم بعفوية، وهذا - بالمناسبة - ما سوف يُحقق ثلاثة أرباع الحل؛ لأن كثيراً ممن لديهم حس سليم ومعايير منطقية غير مُختلة ممن سوف يستمعون لهم - وهم قطعاً أكثرية - لا بد وأن يكتشفوا انحرافهم وخطورتهم على المجتمع بسهولة.. أما (الربُع) الآخر المتبقي الذي يحتاج إلى جرعات متخصصة، فهؤلاء يمكن أن تُفرد لهم فيما بعد حلقة أخرى تكون امتداداً لهذه الحلقات يكون ضيوفها متخصصين من طلبة العلم الشرعي وأطباء نفسيين وكذلك متخصصين اجتماعيين وخبراء أمنيين، وتُطرح مقولات وتجليات هؤلاء عليهم كمادة مسجلة ويتم نقاشها وتفنيدها ودحضها.
المهم أن نعي أن المشكلة الأهم ليس علاج الأفراد الذين أفرزتهم هذه الظاهرة (الإرهابية المميتة) فحسب، وإنما الأهم علاج منبع هذه الظاهرة حيث استقى هؤلاء ثقافتهم، وهذه الغاية لا يمكن أن تتحقق إلا (بالشفافية)، والشفافية لن نصل إليها إلا بتسليط الضوء على فكر هؤلاء بعد إظهاره من تحت الأرض وأقبية السرية والخفاء والتكتم إلى العلن ووضعه كما هو عليه تحت الشمس؛ وهذا دور الإعلام الأول.
وختاماً أقترح على الأخ داوود أن يُكمِلَ ما بدأه، ويُسلط الضوء أكثر على حاملي هذا الفكر؛ فبهذه الطريقة لا نُعالج فقط الجزء الظاهر على الأرض من نبتة الإرهاب، وإنما نعالج الجذور والبذور التي أفرزت هذه النبتة. إضافة إلى أن من الضرورة بمكان، لاستكمال جهده الوطني المشكور من تخصيص حلقة أو حلقات يُحلل فيها متخصصون من طلبة العلم الشرعي والأخصائيين النفسيين والاجتماعيين مقولات هؤلاء ويرصدون انحرافاتها علمياً من أكثر من جانب؛ ويكون بذلك قد أكمل المشوار.
إلى اللقاء.