ربما أقسى ما تواجهه الحياة الاجتماعية هو تراخي مفاصل الدوافع المعنوية، وغياب العمل الجمـالي، وتهالك الوجدانيات الحميمة في ذواتنا، والأخيرة هي من سنقلبها على وهج الحقيقة التي تنوس آخر ذُبالاتها هذه الأيام.. لنتجاذب معاً منعطفات الحديث عن هذا العنصر المعنوي اليومي المهدد بالانقراض والتواري لا سيما في هذا الزمن المتسارع.
فتهالك الوجدانيات هو أدق وصف لما تعيشه حالة المعاني في الذات الإنسانية هذه الأيام، فهل نقول عنها إنها ضريبة التطور والتبدل، أو ما يُعرف بالتحول الحتمي؟ فالوجدانيات أو المعاني الحميمة هي أيسر الأشياء وأبسطها حتى إنها باتت الآن للأسف هي الجدار القصير الذي يقفز من فوقه الجميع، ركضاً ولهاثاً، وسعياً في مناكب الأرض وتفاصيلها. فهناك من يجهد أيضاً بحثاً عن أي شيء يعيد للذات هدوءها، وللنفس طمأنينتها، وللذائقة جمالها الفطري على نحو التقاط الخطاب الشعبي والعمل على رعايته وحفظه، من أغانٍ، وقصائد، وقصص، وأمثال، وطرف، وملامح جمالية عفوية في الحياة اليومية.
وحينما تُجمع الرؤى والأفكار بأن سبب غياب هذه الوجدانيات الجميلة هو سطوة الحضارة وزخم الاستهلاك الذي يُقال إنه أفسد على المجتمع حميمياته ووجدانياته البسيطة، فلا بد لنا إذاً أن نفتش في موفور ذاكرة بعض المجتمعات التي غزتها التقنيات وضربتها أعاصير التغيير ومع ذلك بقيت محافظة على كيان البساطة، ومكتسبات الذات من المعاني والرؤى الوادعة على نحو ما نلحظه في الكثير من مناطق الريف في بلاد كثيرة!
فالمحافظة على بيئة الوجدانيات هو في اليقين شرط أساس لبقائها متوهجة في الذات والذائقة، لأن المدن - وهذا أمر منطقي - تسعى منذ قيامها الأول على نكران كل ما هو ريفي، وتحجيم كل ما هو معنوي، وتصدير فكرة البحث عن مقومات التمدن والتطور حتى وإن كان شكلياً، إلا أن الريف في بعض البلاد حولنا أو بعيداً عنا يحافظ على وجوده الفطري، ومكونه التراثي، حتى وإن اتسمت بعض ملامحه بالتحول والتغير.
فحينما نأخذ على سبيل المثال الريف الإنجليزي أو التركي أو الماليزي، فإننا نطالعه وقد بات محافظاً على الهوية التقليدية، وسبل العيش، وعادات وتقاليد الحياة، أما وإن تطورت هذه الأماكن فإنها تظل في حدود وضوابط معينة تكفل بقاء الريف واستمرار وجوده قدر الإمكان.
أما في البلاد اللاهثة وراء التغيير أياً كان فإن بيئة الريف تطالها حمى التغيير والبناء والنظرة العشوائية إلى مطالب التحول والتبدل، حتى ينقلب كيانها البسيط رأساً على عقب، وأقل ما يكون هو فتح شارع مسفلت في قرية نائية، وإضاءته بأنوار صفراء فاقعة.. فكان من الأولى أن تبقى محافظة على وداعتها ولو من حيث المظهر العام.
فغياب ضوابط هوية الريف، ومعايير القرى، وتواري منطلقاته أسهم في جعل هذه البيئة مهددة بالتلاشي، وفقدان منجزها الإنساني المرتبط بالهدوء والوداعة والبعد عن صولات وجولات المدن وأدعياء الرفاهية وتكالبهم على فتات الحياة، دون مراعاة لمعاني البساطة في ما هو ريفي.
فالضحية الأكبر - كما أسلفنا - في هذه المعركة الوجودية هو جماليات المعاني وإشراق الوجدانيات، الشفاهي منها على شاكلة الغناء والشعر والأمثال والقصص والحكم، وما هو مادي معطّر بعبق الماضي المتمثّل في مظاهر البيوت التقليدية ووسائل العيش البسيط، والمحافظة على الحرف الشعبية، وتقديمها بشكل مناسب يكفل بقاءها.