حينما يقرأ الإنسان مسمى وزارة التربية والتعليم في أي بلد من أقطار عالمنا العربيّ فإنه ينبثق من هذه التسمية شيء مهم، وهو أن التربية تأتي قبل التعليم. ولا غرو في ذلك، فالتربية هي الملاذ الآمن والحصن الحصين الذي يمنع الإنسان من ارتكاب الأخطاء كما يمنعه من الانحراف المُهلك.. فلكي يكون الإنسان فاعلاً في هذه الحياة فلابد أن تسبق مدخلات التربية مدخلات العلم المحض.. إن الله تعالى حينما خلق آدم وقال لملائكته المطهرين في قوله تعالى {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً}، ذهب الملائكة المطهرون من واقع تجاربهم مع خلق الله على هذه الأرض فقالوا لله قوله تعالى {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ}، إذاً إن ملائكة الله ذهبوا يتساءلون في استغراب كيف يكون أحد خليفة في هذه الأرض يعيث فساداً!! فهم علموا ذلك من تجارب سابقة في خلق الله كيف يكون سلوك هذا الخليفة الذي سيهبط إلى الأرض قبل تساؤلهم عن علمه ودرايته الفكرية في ميادين العلوم المختلفة. إذاً إن التربية مقدمة على العلم لصالح الإنسان. وحينما أهبط الله آدم إلى هذه الأرض واستعمره فيها فإن الله تعالى هيأ له سبل الحياة، ولكن آدم أخطأ، قال الله تعالى عن آدم {عصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى}، إلا أن آدم عليه السلام مركوز في ضميره الفطرة السوية فطفق يكفر عن خطئه، وراح يتوسل إلى الله أن يتوب عليه، فقال الله تعالى على لسان آدم عليه السلام وحواء عليها السلام (قَالَا رَبّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِر لَنَا وَتَرْحَمنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ)، فبشر الله آدم بتلك الكلمات المسددة التي يقولها، ومن ثم تاب الله عليه بقول الله تعالى (ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى). إن الله تعالى في وحيه الطاهر أوحى إلى آدم عليه السلام الذي به لن يضل ولن يشقى باتباعه هدى الله، قال تعالى (قالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى، وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى). إني أراني أطنبت في إطنابة كبيرة قد تبعدني عن صلب الموضوع وما أنا بصدده ..ولكن هذا الإطناب في مقدمة هذا الموضوع هو إطناب حتميلنعرف عبره أن التربية والتهذيب أمر ضروري من أجل السير في هذه الحياة وبحورها المتلاطمة. إذاً إن كل تجديف وهرطقة في مسيرة الحياة من قبل الإنسان هو متأت من قصور في الجانب التربوي المحض. وتعالوا أيها القراء الكرام أقول لكم شيئاً مهماً _ إن (ألفرد نوبل) قد علا كعبه في ميدان العلم الحضاري المحض، وبعلمه هذا اخترع شيئاً يهلك الإنسان، فبعد أن محص أمره وجد ذاته تجدف في مسيرات الحياة فساداً وإهلاكاً، فأنَّبه ضميره الحيّ، فراح يجعل جائزة علمية كبيرة في مجالات العلوم المختلفة التي تخدم الإنسانية وتحفظها من الهلاك والضياع، والأمر معروف عند الجميع. إذاً فيوم توارى السلوك المهذب خلف المجال العلمي المحض البعيد عن التهذيب حصل ما حصل عند (ألفرد نوبل) في اختراعه المعروف. إني هنا أريد أن أصل إلى شيء مهم، وهو أنه يجب أن يكرس المعلم وقته للناشئة تجلية وبياناً للتربية والتهذيب والبعد عن مواطن الانحراف البشري.. إذاً إننا في العالم العربي بل دعوني أذهب أكثر من ذلك إنه يجب علينا في العالم أجمع أن نعلم أنفسنا أننا في حاجة ماسة إلى كلمة تربية أحوج منها إلى كلمة علمية مجردة من التربية والتهذيب. إن بعض الناس يقول إن التربية والتعليم وجهان لعملة واحدة ولا غنى في الواحدة عن الأخرى، فهما كجناحي الطير، ولكني بعد أن محصت كتاب الله تعالى وجدت أن التربية تأتي قبل العلم المحض بمسافة كبيرة، وكثيراً ما نشاهد ذلك، فكم من إنسان أمسك العلم بقرنيه ولكنه حينما افتقر إلى التربية فإنه انحرف!! فكم من إنسان بسيط يملك جانباً من التربية ولا يملك شيئاً من العلم فنراه يسير في هذه الحياة سيراً لا انحراف فيه.. وكم من إنسان خال الوفاض من التربية ومعه العلم المحض فنراه ينحرف في هذه الحياة!! إن بعض الطلاب حينما يقفون في ميادين الحياة المختلفة ويصابون في مجالات الحياة فتعصف بهم ذات اليمين مرة وذات الشمال مرة أخرى نراهم لا يحسنون التصرف حيال هذه المشكلات المختلفة، فنراهم يرتكبون الأخطاء تلو الأخطاء، وما هذا إلا بسبب كونهم خاليي الوفاض من التربية التي تحصنهم من الضياع.. وإني سأضرب لكم مثالاً حياً يتبين لنا عبره أن الطلاب قد حُقنوا علماً محضاً لا تربية تعصمهم من مشكلات الحياة المختلفة، إن الطالب أحياناً في عالمنا العربي عندما يتخرج من التعليم العاليّ ولا يجد وظيفة فنراه يتشنج ويتمايل ميلاً يحدوه إلى الضياع بسبب كونه عجز أن يتكيمع هذا الظرف الطارئ! إذاً تأصيل وغرس المبادئ والمثل مسألة حتمية تسبق التعليم الصرف بكثير.