أكَّد الأستاذ حجاب الحازمي أنَّ جسور التواصل الثقافي السعودي اليمني راسخة وممتدة ولا يمكن أن تؤثِّر بها الأحداث والظروف الطارئة والمحيطة, وإن شابَها الضعف لفترةٍ من الفترات إلا أنها متينة متجددة وأقوى من كل الأحداث, فهي ضاربة في عمق التاريخ بين البلدين اللذَين يمثلان قطبَي الجزيرة العربية, وهذه الجسور تستمد روابطها من الدين والدم واللغة والجوار، جاء ذلك خلال محاضرةٍ ألقاها في سبتية حمد الجاسر الثقافية بالرياض, وأدارها سعادة الأستاذ علي الشمسان, بحضور سعادة الأستاذ محمد عبدالعزيز (القائم بأعمال السفير اليمني في الرياض) وعدد من المثقفين والمفكرين والأكاديميين من البلدين.
ودعا المُحاضر إلى ضرورة تعزيز العلاقات الثقافية بين البلدين التي تمتد من زمن رحلتَي الشتاء والصيف, وأشار أنه قد مهَّد لبحثٍ مطوَّل له في هذا الصدد (نُشر في كتابٍ بعنوان «التواصل الثقافي بين السعودية واليمن») بمقدِّمة تاريخية موثَّقة بمصادر من القرن السادس الهجري حتى أواخر القرن الثاني عشر, ثم فصَّل تطوُّرها في القرن الثالث عشر مع بداية الرسائل بين أئمة الدولة السعودية الأولى واليمن، وركَّز في محاضرته على التواصل الثقافي خلال الفترة 1157-1431هـ. وقدَّم لمحةً عن الأحوال السياسية والاجتماعية في بعض أقاليم الجزيرة العربية قبيل ظهور الدعوة الإصلاحية التي قامت عليها الدولة السعودية الأولى, مشيدًا بدور العلاَّمة الشوكاني وابن الأمير الصنعاني وكوكبة من علماء اليمن وأدبائها ومثقفيها, وعلى الجانب الآخر أشاد بدَور العالم عبدالله بن المبارك وعلماء السعودية ومفكريها ومثقفيها الذين جسَّدوا هذه العلاقة بالتواصل المستمر, واهتموا بتفعيلها عبر لقاءات وأعمال مشتركة بين البلدين.
ثم انتقل إلى الحديث عن العلاقة الثقافية مع اليمن إبان الدولة السعودية الثانية, وصُوَر مَدّ الجسور الثقافية في هذا العهد, وكان من أبرز أعلام هذا العصر السيد علوي السقاف والشاعر عبدالله المغيرة النجدي الذي وفد إلى حضرموت، ثم امتداد هذه العلاقة إلى بزوغ فجر توحيد المملكة العربية السعودية وازدياد صلتها بالجمهورية اليمنية وثوقاً وقربى, وامتدت العلاقات بين الشعبين فأضحت أكثر متانةً وأشد عمقاً.
وأشار إلى أنه أفرد لهذا العصر الميمون صفحاتٍ كثيرةً من كتابه, بدءاً بالأحداث السياسية التي وقعت بين الملك المؤسِّس وإمام اليمن, فقد فعَّل الشاعران محمد محمود الزبيري وعبدالرحمن السقاف جذوة هذا التواصل, مستعرضًا بعض القصائد الشعرية لكلٍّ من الزبيري وباكثير التي تجسِّد تلك العلاقات, كما طارح الشاعر باكثير كوكبةً من شعراء المملكة, وقد نشر بعضًا من مطارحاته في مجلة «المنهل», ومن هؤلاء الشعراء طاهر زمخشري, وعبدالقدوس الأنصاري, وأحمد ياسين الخياري, وكذلك طارحَ الشاعر اليمني عبدالرحمن السقاف الشاعر السعودي أحمد الغزاوي, وكذلك مطارحات العلاَّمة اليمني محمد زبارة مع الشيخ تركي الماضي والشيخ عبدالظاهر أبو السمح, وكذلك هجرة الأخوين محمد طاهر وحسين الدباغ إلى حضرموت وإنشاء مدرسة الفلاح بالمكلا, وكان في المقابل هجرة معاكسة إذ هاجر العلامة الحضرمي أبوبكر الحبشي والعلامة أحمد الحضراني إلى مكة, وهو ما يؤكد التواصل المعرفي بين البلدين.
وسرد المُحاضر بعض القصائد التي أُلقيت من شعراء اليمن في عهد الملك سعود بن عبدالعزيز, لاسيَّما حين زار اليمن فحيَّاه الشاعر محمد زبارة, وكذلك حين زار ملك اليمن الإمام أحمد المملكة العربية السعودية ألقى الشاعر أحمد الغزاوي قصيدة مطوَّلة يمتدحه فيها ويمتدح اليمن. كما كان لكلٍّ من الأديبين الشيخ حمد الجاسر والشيخ محمد العقيلي اهتمامهما الكبير باليمن وتاريخه وأعلامه, وممن تواصل معهما القاضي إسماعيل الأكوع, والدكتور محمد عبده غانم, والعلامة حسين الحبشي, والعلامة محسن أبو طالب, ودار بينهم إرسال رسائل وتَهادي الكتب وتبادل الزيارات.
وأوضح أنَّ التواصل الثقافي تعزَّز بشكل أكبر في عهد الملك فهد بن عبدالعزيز - رحمه الله - والملك عبدالله حفظه الله, وقد اتسم بتعدُّد الأنشطة الثقافية بين البلدين, فأُقيمت الأسابيع الثقافية والفعاليات الأدبية على هامش معارض الكتب, وكذلك اللقاءات العلمية بين جامعات البلدين, وإقامة أمسيات ثقافية وشعرية لأعلام يمنيين, ومنها ندوة الأديب عبدالعزيز الرفاعي التي كُرِّم فيها الأديب والراوية اليمني أحمد الحضراني, كما كرَّمت الأديب والشاعر اليمني أحمد الشامي، واحتفت اثنينية الشيخ عبدالمقصود خوجة بكوكبة من رجالات اليمن البارزين أمثال: أحمد الشامي وأحمد النعمان وعبدالمجيد الزنداني..., إلى جانب غيرها من الملتقيات الثقافية والصالونات الأدبية، كملتقى أبها الثقافي الذي استضاف الأديب اليمني الشاعر أحمد محمد الشامي, وكذلك كانت هناك صالونات ثقافية أخرى احتفت بأعلام الشعر والأدب في اليمن, ومنها خميسية الشيخ حمد الجاسر, وأحدية الدكتور راشد المبارك. مشيرًا إلى أنَّ الراصد للمشهد الثقافي بين المملكة واليمن في عهد خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز يجده يزخر بالتواصل المعرفي والأدبي بين الجارتين ويصل إلى ذروته, مثل زيادة المِنَح الدارسية للطلاب والطالبات اليمنيين في الجامعات السعودية, ودعم تمويل المشروع الخاص بترميم بعض مخططات مدينة زبيد الأثرية, وتنظيم الجامعات السعودية أيامًا ثقافية وعلمية بالجامعة اليمنية، إلى جانب تدريب أكثر من 120 صحفيًّا يمنيًّا من قِبَل مركز الأمير أحمد بن سلمان بالرياض، وفي المقابل تطبع وزارة الثقافة اليمنية ديوانين للشاعرين عبدالله ثابت ومحمد مسير مباركي، ومجموعة قصصية ضمَّت قصصًا لأبرز الأسماء القصصية في المملكة، وفي عام 2009م أُقيمت الأيام الثقافية السعودية في اليمن وكانت حدثًا بارزًا في مسيرة التعاون الثقافي بين البلدين, شاركت فيها المملكة بأنشطة شعرية وقصصية ونقدية ومسرحية وسينمائية وتشكيلية وفنية, وشارك فيها جمهرة من البارزين في هذه الفنون، كما أقامت اليمن أسبوعًا ثقافيًّا في المملكة بأنشطة شعرية وقصصية ونقدية ومسرحية وفنون مختلفة، وقبل ذلك استضافت مؤسسة العفيف الثقافية في اليمن كوكبة من الشعراء والأدباء والأكاديميين السعوديين, منهم الشعراء أحمد البهكلي وأحمد الحربي وعيسى جرابا وموسى عقيل والأكاديمي الدكتور علي الصميلي، وفي المقابل نجد مركز الشيخمد الجاسر الثقافي يحتفي بعددٍ من أعلام اليمن, وقام بزيارةٍ لمحافظة حضرموت, وقد ضمَّ الوفد مجموعةً من المؤرِّخين الأدباء والكُتَّاب والإعلاميين، وبعد عامين من هذه الزيارة يلبِّي المثقفون السعوديون دعوةً لزيارة اليمن احتفاءً باختيار مدينة (تريم) عاصمةً للثقافة الإسلامية لعام 2010م، حيث حاضرَ الدكتور عبدالرحمن الشبيلي في ثلاث مدن حضرمية هي: سيئون وتريم والمكلا، كما ألقى الشاعر عبدالقادر كمال قصيدةً تعزِّز التواصل الثقافي بين البلدين. ثم خُتمت المحاضرة بمداخلات ومشاركات من الحضور أَثْرَت الموضوع.